مجددا وكما جرت العادة كل عام تقريبا, وفي أكثر من مناسبة, وجد الثنائي المارق, إسرائيل/أمريكا نفسه مع حفنة من الدول التي لم يتجاوز عددها تسع دول من أصل نحو مائتي دولة, أعضاء في الجمعية العمومية للأمم المتحدة, عند التصويت على مشروع القرار الأممي الذي يدين اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل, وذلك بعد يومين فقط من التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار يعتبر الإعلان المذكور منافيا للقانون الدولي وللشرعية الدولية, حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها الوحيدة من بين خمس عشرة دولة عضوا في مجلس الأمن ضد مشروع القرار, لتضطر على اثر ذلك أن تستخدم حق النقض/الفيتو لتمنعه من المرور .
الولايات المتحدة استخدمت حق النقض 42 مرة لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية في مجلس الأمن, وذلك منذ عام 1973 فقط, ورغم ذلك فقد مر أربعون قرار آخر, ومع قرار الجمعية العمومية المتخذ اليوم, فأنه يمكن القول بأن إسرائيل قد نالت قرارات إدانة, من الأمم المتحدة أكثر بما لا يقاس من أية دولة أخرى, بما في ذلك دولة الفصل العنصري التي كانت في جنوب أفريقيا, الأمر الذي يؤكد كونها دولة مارقة للشرعية الدولية .
تسع دول فقط, وقفت مع الثنائي المارق, أي 5% من دول العالم, رغم مكانة الولايات المتحدة, ذلك أن قرار الإدانة هذه المرة تعلق بقرار أمريكي وليس بقرار إسرائيلي, ورغم التهديد والوعيد الأمريكي الصريح, والذي جاء من أكثر من مستوى بما في ذلك الرئيس ترامب شخصيا .
لقد مارس ترامب وأعضاء إدارته كل أشكال الضغط والبلطجة التي لا تليق بدولة عضو في الأمم المتحدة, وليس فقط بدولة تعتبر الدولة الأكبر والتي تتمتع بحق الفيتو في مجلس أمنها, ومع أن الأمر بالنظر إلى كل ما سبق وصوتت في سياقه الجمعية العامة, إلا أن التصويت كان يعني الكثير للثنائي المذكور, وإلا لما قامت الإدارة الأمريكية بممارسة التهديد والوعيد لمن يصوت مع مشروع القرار الذي تقدمت به في مجلس الأمن, مصر وفي الجمعية العمومية تركيا واليمن, ودعمته المجموعة العربية والدول الإسلامية ودول عدم الانحياز .
وقد لفت الانتباه, قبل التصويت والذي كانت نتيجته متوقعه, ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو, حين وصف الأمم المتحدة ببيت الكذب . وقبل ذلك كان نتنياهو قد علق على الإعلان الأمريكي قائلا بأن أمريكا قد تأخرت سبعين سنة حتى تقر بالقدس عاصمة لإسرائيل .
في قول نتنياهو مفارقة غريبة/عجيبة, ولأنه مثل أي متطرف لا يسمع إلا نفسه, ولا يهتم بمواقف وآراء الآخرين, فأنه بقوله هذا كان يقصد بأنه كان على الولايات المتحدة أن تعترف بالقدس عاصمة لكيانه عام 1948, ونسي بأن دولته نفسها لم تفعل هذا قبل سبعين سنة, أي يوم أعلن ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل من تل أبيب, حيث لم يكن جيشه قد احتل المدينة المقدسة بعد, بل إن إسرائيل نفسها, وبعد أن احتلت القدس بقيت تعتبرها أرضا محتلة حتى عام 1980, أي بعد 13 عاما من احتلالها حين شرع الكنيست ما سماه بقانون أساس: أورشليم القدس عاصمة لإسرائيل, والذي بقي قرارا باطلا من وجهة نظر الشرعية الدولية, حيث اتخذ مجلس الأمن نفسه عام 1980 قرار صريحا برفض نقل السفارات للقدس لأنها مدينة محتلة.
إن ردود الفعل التي أعقبت إعلان ترامب, ومن ثم شكل التصويت في كل من مجلس الأمن والجمعية العمومية, يسقط في يد إسرائيل, التي كانت تظن بأن الإعلان الأمريكي سيفتح الباب واسعا أمام دول أخرى لتحذو حذو الولايات المتحدة, وذلك يعني بأن سقوط عدد من الشهداء ومئات الجرحى ومئات المعتقلين, كذلك التحرك الرسمي الفلسطيني على الصعيد الدولي, وهبّة الشعوب العربية والإسلامية والتظاهرات التي عمت العالم, قد أتت أكلها وقد صنعت سدا وحاجزا أمام الانهيار, ووقفت في وجه الجبروت الأمريكي, لدرجة أن التصدع في الموقف قد نال من الموقف الأمريكي نفسه, حيث ظهر جليا بأن من يدافع عن إعلان ترامب هو البيت الأبيض ممثلا بالثالوث: ترامب, بنس وكوشنير, مقابل وزارة الخارجية .
وحتى الآن يمكن القول, بأن الأكثر ضررا كان هو مكانة أمريكا السياسية, التي لم تعد مقبولة للقيام بدور راعي العملية السياسية في الشرق الأوسط, وبات من الصعب عليها ليس فقط تمرير صفقة القرن, بل حتى عرضها أو طرحها للنقاش, ولدرجة اضطرت معها واشنطن إلى تأجيل زيارة مايك بنس, عرّاب الإعلان, بعد أن كانت أعلنت أن الزيارة اقتصرت على مصر وإسرائيل, بعد أن رفضت رام الله استقباله .
يبدو أن سبب تأجيل زيارة بنس, هو قيام مصر بطرح مشروع القرار الذي يدين الإعلان في مجلس الأمن , لكن خسائر الولايات المتحدة ومعها إسرائيل لن تتوقف عند هذه الحدود .
فإسرائيل التي يصف باسمها نتنياهو الأمم المتحدة بأنها بيت الكذب, لم تعد مقبولة كعضو في المنظمة الدولية, تجلس على مقعد كما هو حال باقي الدول, فأولا وقبل كل شيء, قرار الأمم المتحدة بقبول إسرائيل عضوا فيها عام 1949, اتخذ كقرار مشروط بإقامة دولة فلسطين, وباعتراف إسرائيل بحق عودة وتعويض اللاجئين الفلسطينيين وتمكينهم من هذه العودة .
وإذا كانت الأمم المتحدة بيتا للكذب فلم يمكث فيها نتنياهو, حيث الأجدى به أن ينسحب منها, لأنه من المستحيل أن يتم تفصيل أمم متحدة أو عالم خاص بدولة مارقة, كما هو حال دولة إسرائيل, وفعلا قد لا يطول الوقت الذي نجد فيه مع استمرار هذه المواقف المنفردة للولايات المتحدة أن يقوم المجتمع الدولي بمراجعة حق النقض الذي جاء في ظل الحرب الباردة وعلى اثر الحرب العالمية الثانية, وبات عبئا على العدالة الدولية, بما يضعف من القوة التي تستند إليها إسرائيل باستمرارها في الخروج عن الشرعية الدولية, وقد لا يطول الوقت بذلك حتى يتم نبذ إسرائيل المارقة, لتكون أمام احد خيارين: أما الانصياع لمنطق وقيم المجتمع الدولي, أو التفكك والسقوط, كما حدث مع جنوب أفريقيا .