المصالحة وحقوق البشر في بلادنا

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

 

بينما الأوضاع تحتدم على الأرض في فلسطين، والعالم كله ينتظر وحدة الطيف السياسي، لكي يتحول التصويت لصالح القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الى ورقة سياسية في يد نظام سياسي محترم ويحظى بالرضا الشعبي؛ تدل القرائن على أن مشروع المصالحة قد أنهار. ولعل أبسط قرائن هذا الانهيار، وأقلها إيلاماً، هو ما أعلنه الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، عن حال المشافي التي وصل بؤسها الى حد العجز عن تقديم وجبات الطعام للمرضى، علماً بأن مرضى غزة قد عافوا وجبات الكلام المتناثر، والكذوب، عن جماليات المصالحة ومنافعها، وقناعات الممسكين بالمقدرات المالية، بأنها الأوجب والأعز. وجاء إعلان الصحة في غزة، عن هذا العوز، مع التذكير بأزمة الكهرباء ووقود تشغيل المولدات، والشُح الخانق في الأدوية والمستلزمات الطبية وغير ذلك من المصائب التي ابتلي بها القطاع الصحي في غزة.

عند استعراض مؤشرات الاستهتار بالبشر، يقول المختصون أن الشركة التي تزود المشافي بوجبات طعام المرضى، اضطرت الى التوقف عن التزويد، بعد أن تراكمت الديون على وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، علماً بأن هذا التداعي الخطير، من شأنه أن يؤدي إلى تدهور الحالات الصحية للمرضى، لا سيما وأن الوجبات يتم تحضيرها بمواصفات تراعي الشروط التي تلائم السياق العلاجي، من حيث السعرات الحرارية والبروتين، لكن اضطرار المريض الى جلب ما تيسر من الطعام من أهله، يطيح بالنظام الذي اعتمدته وزارة الصحة منذ حوالي ست سنوات ونجح.

اليوم أصبحت الوزارة ملاحقة بالشيكات التي لم تصرف، لعدم توافر الرصيد. والشركة المزودة، لديها أعباء كلفة الانتاج، ولم تعد قادرة على الاستمرار!

في هذا السياق، يتعرض مرضى عديدون الى آلام مضاعفة. فمريض الكِلى المضطر للغسيل، يتأذى في حال اضطراره الى أكل طعام المنزل قبل أو بعد التعرض لآلة الغسيل، ويصاب بمضاعفات. فوجبات المشافي في جوهرها هي حميات غذائية تُعد لمرضى الكلى والسكري والقلب والضغط، والمرضى الذين تُجرى لهم جراحات.

وعلى صعيد متصل، يضطر أهالي المرضى الى دفع كلفة الخدمات بأثمان باهظة عند توفيرها على حسابهم، بينما قطاع غزة يمر بضائقة اقتصادية غير مسبوقة، وتتفاقم الأمور يوماً بعد يوم، ما جعل القطاع الصحي في قطاع غزة، يصاب بالشلل والعجز بشكل مطرد!

وعندما نتأمل عجز المشافي عن توفير وجبات الطعام للمرضى، نلاحظ أن المبلغ الذي تسبب في وقف الشركة المتعهدة بتقديم الطعام، لا يساوي 10% من أكلاف وقود سيارات المسؤولين وصيانتها، ناهيك عن نثرياتهم ومآدب طعامهم وأكلاف سفرهم وفنادق إقاماتهم. فالكلفة الشهرية لا تزيد عن 400 ألف شيقل، ما يعني انقطاع القائمين بالوظيفة السياسية، عن أوضاع الانسان الذي يُفترض أنهم يعملون في خدمته. ولا يستحي هؤلاء المسؤولون وهم يضعون شعبهم في موقع المضطر الى استجداء طعام المشافي من بلد آخر، بينما هم عندما يسافرون الى أي بلد، تتبدى عليهم آثار البحبوحة. فما هو شكل سحناتهم ومذاق لغتهم عندما يتحدثون عن القضية، أو عن المصالحة، بينما هم كمترفين لا يكترثون لانقطاع الطعام عن مشافي بلادهم، وشُح المستلزمات وإرهاق المواطنين الفقراء، بإجبارهم على دفع أكلاف الطبابة؟!    

بعد أكثر من شهرين، على همروجة المصالحة، لا زال الناس يتعذبون على كل صعيد.  وبدل وضع النقاط على الحرف، والتهيؤ لإطلاق الهدير الشعبي في وجه كل معيق للمصالحة، نسمع بعض عبارات المديح للتفوهات الاضطرارية ضد قرار ترامب وممارسات إسرائيل، بينما الجواب الطبيعي الذي يكتسب شيئاً من الصدقية، هو ذلك الذي يسارع الى تلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان عموماً، وللجريح وللشهيد الفلسطيني الذي يتاجر البعض بدمه وبسالته وغضبه من ظلم العدو، صهيونياً إسرائيلياً أو صهيونياً أمريكياً!

إن المصالحة، هي مشروع لإنصاف الإنسان، ورد كرامته اليه، وإعطائه حقه في أن يختار من يحكمونه، بعد إعطائه حقوقه الاساسية كإنسان، في العمل والسفر والتعليم والطبابة والمياه النقية والكهرباء والصرف الصحي!