ثبت شرعاً، وبالدليل الحسي الملموس، أن لا عرب عاربة ولا عرب مستعربة، وأن لا جامعة دول عربية، ولا وجود لدول عدم الانحياز، وأن مجموعة الدول الاسلامية خرافة.. وان الصوت الاسرائيلي مموهاً بالصوت الاميركي أقوى من مجاميع الدول الفقيرة والمحتاجة والتي تدفع من خبزها كلفة استعبادها والتحاقها بسيد الكون الاميركي.
هذه قراءة أولية للرحلة المرتجلة في اتجاه مجلس الامن الدولي بقصد الغاء مفاعيل قرار الرئيس الاميركي، دونالد ترامب، القاضي باعتراف بلاده بالقدس عاصمة للاحتلال الاسرائيلي.
صحيح أن هوية القدس، مدينة التاريخ والقداسة، حافظة التراث الديني للأديان السماوية الثلاثة، لن تتأثر بالفيتو الأميركي.. فالتاريخ أخطر من أن يكتبه مضارب اميركي في البورصة استطاع الوصول إلى البيت الابيض في واشنطن، مفيداً من نقص في وعي المواطن الاميركي وانخراطه في أي شكل من اشكال العمل السياسي.
لكن الصحيح ايضاً والذي لا بدّ من اعلانه، جهراً، أن العرب هم المسؤولون، بالدرجة الأولى كما بالدرجة الأخيرة، عن هذا الوضع المزري الذي يعيشون تحت اثقاله، مهدوري الكرامة، بلا أي قيمة على المستوى الدولي، تمزقهم كراهية بعضهم للبعض الآخر، وتذهب بأوزانهم وقدراتهم في المحافل الدولية انقساماتهم وتآمر بعضهم على البعض الآخر، والمنافسة الشرسة بين دولهم، سواء منها الاصلية او المبتدعة، على التفريط بمقدساتهم ومعهم ثرواتهم الوطنية، واستقلال قرارهم في ما يعني حرية بلادهم واستقلال قرارهم، فمن أين تأتي الكرامة والمكانة وأهمية "الصوت العربي" في القرار الدولي؟
لقد ذهب العرب إلى مجلس الأمن منقسمين: كان بعضهم قد فرغ، بالكاد، من احتفاله بالرئيس الاميركي ترامب الذي خص السعودية بالزيارة الرئاسية الأولى، وعاد منها بأكثر من 460 مليار دولار، فضلاً عن الهدايا التي نالها بشخصه كما بالسيدة قرينته وابنته وصهره والتي تناهز المليار دولار نقداً..
***
أما البعض الآخر من ملوك النفط وأمراء الغاز فقد حملوا إلى الرئيس الاميركي في مكتبه البيضاوي في البيت الابيض، ما لا عين رأت من قبل من الهدايا الثمينة والآثار النادرة، من دون أن ينسوا الزوجة والبنات والأصهار.. تدليلاً على صحة انتسابهم إلى اسطورة الكرم العربي: حاتم الطائي..
ماذا ينفع العرب مجلس الأمن، إذا كانوا محتربين في ديارهم: السعودية تقاتل اليمن بذريعة إيران، وبعض دول الخليج يقاتل سوريا باسم "جبهة النصرة" و"احرار الشام" وسائر مستولدات "القاعدة"، وجيش الخلافة الداعشية يقاتل العراق وسوريا متحالفا مع بعض التنظيمات الكردية المسلحة اميركيا؟!
ماذا ينفع العرب مجلس الأمن ودولة ليبيا قد تبخرت وصار لحكوماتها المتعددة وفود تدور مستجديه الاعتراف بها، والثروة النفطية الاسطورية تضيع هباء بينما الليبيون جائعون وتائهون؟!
..والسودان قد بات دولتان والثالثة في الطريق، تليها الرابعة!
..والجزائر غائبة عن الوعي كما رئيسها بوتفليقه الذي لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى..
..والمغرب منكفئ وعلى ذاته، وأمير المؤمنين الشاب يحاول حماية امجاد الاسرة العلوية التي جيء بأول من عهد اليه بالملك فيها رجل صالح من العترة النبوية الشريفة ليكون حكماً بين المغاربة لا ينازعه حقه في الحكم منازع؟!
ثم، لنفرض جدلاً أن مجلس الامن الدولي تجاوز الصوت الاميركي مانع القرار، فمن سينفذ؟!
لقد انكر قادة الدول العربية، ملوكاً ورؤساء وأمراء ومشايخ، هويتهم العربية، في قلب جامعة دولهم التي ماتت منذ زمن بعيد ولم تجد بعد من يدفنها، ووقف لبنان وحده يجاهر بعروبته، بينما الآخرون المتوجة رؤوسهم بالكوفية والعقال، يتنصلون منها وهم يقصفون فقراء اليمن، ويتآمرون على وحدة العراق، ويحرضون اكراد سوريا على الانفصال، ويحجزون رئيس حكومة لبنان فلا يفكون اسره الا بعد اتصالات دولية حثيثة وتدخل فرنسي فعال، بينما انقسم سائر العربان بين شامت ومحرض..
وما أشرف دولة جنوبي افريقيا التي ما تزال تحافظ على قدسية نضالها التاريخي، فتتخذ موقفاً مبدئيا ثابتاً خافت الدول العربية من اتخاذه نصرة لفلسطين وحماية لحق شعبها فيها وفي مدينتها المباركة في الاديان السماوية جميعاً؟!
***
حسناً، وبغض النظر عما كان: ما هي الخطوة التالية؟!
لقد انتصرت اسرائيل، مرة أخرى، على العرب وأكثرية دول العالم بالفيتو الاميركي.. ورجع العرب ومن معهم بجائزة معنوية عبر التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل..
لكن قرار الرئيس الاميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ما زال قائماً..
ومع ذلك فقد طلبه فتحدث اليه هاتفياً أكثر من ملك وأمير ورئيس عربي وتمنوا عليه، بل أن بعضهم قد ناشده برحمة أجداده أن يعود عن قراره.. عبثاً!
ما هي الخطوة العربية التالية؟
هل نأتي بالقرار الدولي الجديد فنعلقه على جدران كنيسة القيامة او المسجد الاقصى او مسجد الصخرة، ثم نتباّرك به، بينما شباب فلسطين وصباياها والفتيان يتساقطون برصاص القتل الإسرائيلي يومياً ليحموا مقدسات اليهود والمسيحيين والمسلمين؟!
أم سيكون علينا أن نعلقه على حائط المبكى، الذي يتبّرك اليهود بزيارته مهتزين أمام حجارته الصماء.. وآخر زواره كان الرئيس الاميركي المضارب في البورصة، دونالد ترامب؟!
***
من زمان، نشأت أجيال عربية على شعار "ما أُخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة"..
وها نحن بعد خمسين عاماً من صك ذلك الشعار نخسر المزيد من الأرض وهي أقدس ما نملك، فلا نلجأ إلى القوة لأننا لا نملكها، بينما عدونا ينتزع منا في كل حرب جديدة يتخذ قرارها المزيد من الأرض ونستقبل في بلادنا التي لم يحتلها بعد المزيد من اللاجئين.. وما فاض منهم عن قدرة بلادنا على استقبالهم قصد إلى المهاجر البعيدة، واساساً الولايات المتحدة الاميركية وبعض اوروبا واميركا اللاتينية وأفريقيا، يطلبون جنسية أي بلد ليعيشوا، وقد يبلغون ذروة المواقع العلمية في الجامعات الممتازة في الدنيا. وقد تسمح لهم سلطات الاحتلال الاسرائيلي بزيارة بلداتهم وقراهم المحتلة، والتقاط الصور التذكارية للبيوت التي كانت لهم وأضحت لغيرهم، ثم يعودون إلى حيث كانوا وقد تزودوا بصور تكفي لإبلاغ اطفالهم أن لهم وطناً، مثل كل الناس في العالم، اسمه فلسطين. ولكنه محتل، وأن عليهم الا ينسوه، وان يستذكروه مع الصلاة وبعدها لتبقى لهم هويتهم التي ولا اشرف، حتى لو عجزوا عن استعادتها بأرضهم..
***
لقد خسر العرب المبادرة، سياسياً، بعدما خسروا الجرأة والعزم والقرار بالتصدي للعدوان بقواتهم العسكرية، اذا ما اجتمعت، واجتماعها بات من المستحيلات..
ثم انهم قد انقسموا فتشطروا وتفرقوا أيدي سبأ..
وعلى سبيل المثال، وهذا ضرب من الخيال: لم تجرؤ دولة عربية واحدة على سحب سفيرها من واشنطن، ولو بذريعة التشاور..
ولم توقف اية دولة عربية غنية أي من صفقات التسلح بالمليارات التي تشتريها من الولايات المتحدة الاميركية، فلا تقاتل بها عدوها المحتل.
هي بالكاد رفعت يدها بالتصويت بنعم، ثم ذهبت إلى "السيد" الاميركي تستغفره وتطلب قول اعتذارها كونها "محرجة".
ويا فلسطين جينالك
جينا وجينا جينــالك
جينا لنشيل أحمـالك
رئيس تحرير صحيفة «السفير» اللبنانية