21 حزيران 2015
هيا نكف عن المناكفة قليلاً ونحاول أن نتفق على تهدئة ونرى صورتنا في المرآة، إننا في حالة تراجع غير مسبوقة، نتآكل بهدوء دون أن نشعر، معاركنا داخلية منذ سنوات ونحن في حالة صراع كسرت عمودنا الفقري وعاجزون عن وقفه، نظامنا السياسي منقسم ولا يبدو أن هناك وصفة سحرية لعلاجه بعد فشل كل المحاولات، ما يهدد بتحويل الانقسام إلى انفصال، كل منا يحاول جاهداً إدانة الآخر لتبرئة نفسه من جريمة أصبحت تداعياتها أفدح من أن تحتمل.
المثير للغضب أن الإسرائيلي الموحد في مشاريعه من أقصى يساره إلى أقصى يمينه تمكن خلال السنوات الماضية من التقدم بجزء كبير من مشاريعه التي خطط لها طويلا، فالسياسة الإسرائيلية كانت على درجة من الوضوح خلال السنوات الماضية ونحن لم نفعل ما يجب، فقد تمثلت في الزواج من الضفة والقدس والطلاق مع غزة، فما الذي حصل وماذا فعلنا كي نصد هذا؟ والسؤال الأكثر جارحاً ماذا فعلنا بأنفسنا حتى نسهل على إسرائيل فعل كل ما فعلت؟
وحتى لا نجلد أنفسنا كثيراً فلم يكن الإسرائيلي غائباً عما حدث ويحدث فأصابعه حاضرة في أزمتنا ولم نكن بحاجة إلى اعتراف بعض مسؤوليه لنعرف كيف استدرجنا إلى كل شيء فانشغلنا بأنفسنا وتركناه، أو أنه أغلق أمامنا كل النوافذ وترك واحدة فقط لنذهب إلى حيث يريد، وهكذا نقف مذهولين أمام فظاعة ما حدث ويحدث كأننا لم نضع سياسة لنبدو بعد سنوات أننا لم نكن فاعلين، بل طرفاً مفعولا به، فالاحتلال ليس شماعة بقدر ما هو حالة مضادة للشعوب وأمانيها وتطلعاتها نحو الحرية مستخدماً كل ما لديه من إمكانيات وهي عالية للحفاظ على الوضع القائم وإدامة السيطرة على الشعب وأرضه.
المؤسف أننا لم نفعل ما يكفي لمواجهته وإرغامه على الرحيل، وهو يتلاعب بنا منذ ربع قرن عندما بدأت المفاوضات في مدريد مدججا بقدر كبير من الدهاء والتخطيط والمشاريع المنظمة طويلة المدى، يعرف ماذا يريد وكيف يصل وما هي أدواته، وفي المقابل نحن نبدو على قدر من السذاجة والبراءة السياسية أشبه بحالة قروية تدافع عن بقائها أمام رجل كأنه عائد للتو من أوروبا يعمل تاجراً في البندقية كما قال شكسبير، فما أجمل مسرحياته.
نحن لا نقبل ذلك وخاصة أننا نعرف أن نقاط ضعف الإسرائيلي كثيرة، فهو أولا وقبل كل شيء مشروع كولونيالي احتلالي عنصري، وهذه الصفات كفيلة بالإطاحة بحاملها مهما بلغت قوته، فالعنصرية تحمل بذور فنائها، هكذا قالت تجربة التاريخ، بل وأكثر، فالعنصرية هي نتاج حالة من التخلف والغباء والشعوب الواقعة تحت الاحتلال حري بها أن تستدعي كل ذكائها لإحداث توازن مقابل القوة، لكن ما نراه للأسف هو أن الإسرائيلي يمارس أكبر درجات الدهاء فيما نحن أبسط من ذلك بكثير.
لا يعني أن تجربتنا خالية من أية إنجازات، فما حققته السلطة على المستوى الدولي من بدايات بعزل وحصار إسرائيل هي نتائج جيدة، وأيضا ما حققته المقاومة على صعيد الأداء الميداني ورأيناه في التصدي للعدوان الأخير واشتباكات على الأرض أيضا كان جيدا، ولكن في سياق هذا الأداء السياسي للسلطة والميداني للمقاومة كان المشروع الإسرائيلي يتقدم، نحن أمام دولة عنيدة رغم كل إشارات نبذها مستمرة في الاستيطان، ورغم الضربات التي تلقتها مستمرة في الحصار، والنتيجة التي أمامنا أننا رغم هذا الأداء لم نتقدم وأيضا لم يحدث أي تراجع لمشروع إسرائيل، إذن هناك شيء خاطئ.
المؤسف أن هذا الشيء معروف للجميع .. نحن مشتتون وبعيدون .. معاركنا داخلية، لسنا منظمين لا نخطط للمستقبل ولا برنامج لدينا، لا أحد فينا يعرف ماذا سيفعل الصيف القادم .. إمكانيتنا تتآكل وهي تأكل نفسها في صراعات الداخل، وكل منا يعتقد أنه لوحده قادر على مقارعة إسرائيل، وكل منا يعتقد أنه وحده ممكن أن يقودنا للاستقلال، وأن الآخر ينفذ البرنامج الإسرائيلي ويفرط بالقضية الوطنية، لذا وجب إقصاؤه وإبعاده عن الحكم وصناعة القرار، ببساطة نحن لا نثق ببعضنا وثقة البعض بالخارج أكثر من ثقته بشركاء الدم رغم أن الجميع دفع ثمن المشروع بغض النظر عن فروق التوقيت.
كل سلوك إسرائيلي ينبغي مجابهته لأن الاعترافات التي تصدر عن مسؤولين من تل أبيب تشي بسوء النوايا والتدخل، فلا شيء مصادفة كما ثبت، ولا شيء بعيد عن إسرائيل كما قالت الاعترافات، فقد اعترف يوفال شتاينتس رئيس الكنيست والوزير السابق للاستخبارات أن إسرائيل هي من وقف وراء تجريد سورية من سلاحها الكيماوي ..! أتذكرون كيف وقفت دول عربية وسخرت فضائيات كبيرة لهذا الأمر وهي تعرض صور من قالت إنهم ضحايا الكيماوي السوري، الآن يحق لنا أن نقول إنهم لم يكونوا أكثر من شغيلة لدى إسرائيل.
اعتراف آخر أن إسرائيل والولايات المتحدة خططتا لهذا الحصار بعد سيطرة «حماس» على قطاع غزة، وبالرغم من الخطأ الكبير الذي ارتكبته الحركة حينها ماذا فعلنا نحن والعرب كي نخفف هذا الحصار أو نكسره؟ ثم اعتراف آخر من ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي بأن إسرائيل ستفرغ السلطة من مضمونها، وقد بدأت إجراءات إسرائيلية فعلية على الأرض على شكل انفتاح على الضفة والتواصل مع الشعب مباشرة وكميات التصاريح الهائلة والتي أثارت غضب السلطة في لحظة ما لكنها لم تستطع مواجهتها، لأن إسرائيل تربط مصالح الناس بشكل مباشر معها، فهل ستقف ضد مصلحة الناس وحرية حركتهم؟
وهكذا يجري ابتلاع الضفة واحتواء ساكنيها بلا تفكير بالانسحاب وبلا اهتمام بالسلطة القائمة وسرقة أرضها، وإذا ما حدث احتجاج أو ذهبت للشكوى في محاكم دولية يجري عقابها، أي أن عليها القبول بواقع يحدده الإسرائيلي وبالمقابل تجري مفاوضات مع غزة لتخليد الوضع القائم في منطقة أراد لها الإسرائيلي أن تنعزل، والوضع القائم هنا وهناك يحول دون إقامة دولة مستقلة، وهو ما يشكل الحد الأدنى للحلم الفلسطيني الذي تم التوافق عليه.
نحن أمام دولة مسكونة بهاجسنا وتعصر دماغها لتأبيد الوضع الراهن، وهنا مسؤوليتنا الكبرى أننا نستدرج إلى حيث تريد، فهي تسخر كل إمكانياتها ولا تترك لنا خيارا إلا حيث تريد، وأمام هذا المشهد نحن في أوج صراعنا نتقاذف كرة المسؤولية عن الجريمة وعن الثمن المدفوع بلا إنجازات .. فقد كان الدم غزيراً، فدعونا نعيد قراءة التجربة بلا اتهامات، لأن الإسرائيلي هو المتهم الرئيس، ولكن سلوكنا كانه كان شريكاً مغفلاً، علّنا نتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه ..!