الكاتب: عز الدين المناصرة
مقدّمة:
مساحة فلسطين المعاصرة، هي (27.941 ألف كم2)، تتألف من ثلاث وحدات جغرافية، السهل الساحلي، وغور نهر الأردن، ومرتفعات (فلسطين الوسطى). أمَّا الحدود، فهي:
(الحدود مع لبنان): تبدأ من (رأس الناقورة)، شمال عكا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتتجه بخط مستقيم شرقاً، حتى ما وراء (بلدة بنت جبيل) اللبنانية عندما ينعطف الحدّ الفاصل بين فلسطين ولبنان، شمالاً، بزاوية تكاد تكون قائمة، ليطوّق الحدُّ (منابع نهر الأردن)، فيضمّها إلى فلسطين في ممر أرضي ضيق، تحدُّه من الشرق، (الأراضي السورية) حتى جنوب (بحيرة طبريا). ومن هناك، تبدأ الحدود مع (الأردن) عند مصب (نهر اليرموك)، لتساير بعد ذلك مجرى نهر الأردن، ومن مصبه، تتجه الحدود جنوباً عبر (المنتصف الهندسي) للبحر الميت، فوادي عربة، حتى رأس خليج العقبة. أما حدود فلسطين مع (مصر)، فهي خط يكاد يكون مستقيماً، يفصل بين شبه جزيرة سيناء، وبين أراضي النقب، ويبدأ من (رفح) على البحر المتوسط إلى (طابا) على خليج العقبة. أما في (الغرب)، فتطل فلسطين على المياه الدولية المفتوحة للبحر المتوسط، مسافة تربو على (250كم)، بين رأس الناقورة شمالاً، وحتى رفح جنوباً. وتشغل (فلسطين الوسطى)، أي ما يُسمّى (الضفة الغربية)، القسم الأكبر من الرقعة الأرضية للبلاد( ).
أمّا (نجيب عازوري، 1878-1916)، مساعد حاكم القدس، فيصف (فلسطين العثمانية)، عام 1905، وصفاً مغايراً، فهي تبلغ (50 ألف كم2)، وهي تشمل (هضبة شرق الأردن)، و(غرب الأردن)، وما بينهما (نهر الأردن)، الذي هو مجرى الماء الأكثر أهمية في فلسطين. وتشمل فلسطين، (نهر الليطاني)، الأكثر أهمية في فلسطين، بعد نهر الأردن، وهو ينبع من (سوريا الداخلية)، عند سفح جبل لبنان). فالحدود الطبيعية لفلسطين (حسب تطلعات الحركة الصهيونية)، تبدأ من جبل حرمون (الشيخ)، ووادي الليطاني، بالإضافة إلى المنطقة المحصورة بين (راشيا وصيدا) شمالاً، وشبه جزيرة سيناء في الجنوب، والصحراء العربية في الشرق، والبحر الأبيض المتوسط في الغرب( ).
- ومن جهة أخرى، فإنَّ الباحثين، يجمعون على أنَّ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين، هو عام (1882م)، وهو نفس العام الذي احتلت فيه بريطانيا، (مصر)، وهي (مستوطنة ريشون لتسيون)، التي أقيمت على أراضي (قرية عيون قارة). وفي عام 1914م، وصل عدد المستعمرات اليهودية في فلسطين إلى (47 مستعمرة)، ووصل عدد اليهود (85 ألف نسمة). وأصبحت مستوطنة (تل أبيب)، (1909)، بلدة كبيرة، بعد أن كانت (مجرد ضاحية) من ضواحي (يافا). وهاجر ديڤيد بن غوريون من بلده الأصلي (بولندا) إلى فلسطين عام 1906. كما تأسس في نفس العام، حزب عمّال صهيون (بوعالي تسيون). وقامت (المنظمة الصهيونية العالمية)، عام (1908)، بتأسيس (الشركة العقارية الفلسطينية!!). وفي عام 1909، تمَّ خلع (السلطان عبد الحميد)( ) بعد أن تسلَّمت (جمعية تركيا الفتاة)، السلطة، سمحت (حكومة الاتحاد والترقي)، تحت ضغوطات المنظمة الصهيونية العالمية، وضغوطات أوروبا الاستعمارية، بالهجرة اليهودية، وشراء الأراضي في فلسطين. ويقول (محمد الفرَّا)، بأن عدد اليهود عندما صدر (وعد بلفور) عام 1917، لم يتجاوز (56.700 نسمة) من أصل سكان فلسطين، البالغ عددهم آنذاك، (ثلاثة أرباع مليون)، وبأنَّ (السلطان عبد الحميد)، قاوم (فكرة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين) عام 1909، وقال السلطان عبد الحميد في رسالته إلى الشيخ محمود أبو الشامات من منفاه في (سالونيكا): (عرض الإتحاديون مبلغ (150 مليون ليرة إنجليزية)، لكي أوافق على الفكرة، فرفضتُ بصورة قطعية، وأحمد الله، أنني لم أقبل بأن أُلطّخ الدولة العثمانية، والعالم الإسلامي، بهذا العار الأبدي – خادم المسلمين، عبد الحميد بن عبد المجيد، 22/9/1329)( ).
- وفي خطابه الافتتاحي أمام المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن، (عام 1900)، صرّح (هرتزل) بالقول: (من هنا، ستُحلّق الحركة الصهيونية عالياً، فأعلى...انجلترا العظمى، انجلترا الحرّة، انجلترا بعيونها على البحار السبعة، سوف تفهمنا). وأثناء مفاوضات هرتسل مع الإنجليز، عرض على جوزيف شامبرلين، ولورد لانسداون (وزير الخارجية)، بأنه مقابل الحماية البريطانية، لمشروع الحركة الصهيونية، (سوف تحرز إنجلترا بضربة واحدة على عشرة ملايين رعية سرّية، موالية ونشطة في شتى أنحاء العالم، وسيوضع كل اليهود في خدمة بريطانيا). لقد عرض (شامبرلين)، على الحركة الصهيونية مشروع (الاستيطان في العريش بسيناء)، لكن لجنة صهيونية، زارت المنطقة، واعترضت على المشروع، لأن سيناء (قاحلة). ثمّ اقترح (تشامبرلين)، مكاناً آخر، وصفه بأنه (ذو طقس ممتاز، حتى بالنسبة للأوروبيين)، هو (أوغندا). وذكر هرتسل نفسه، (الأرجنتين) كمكان مناسب للاستيطان الاستعماري في كتابه (دولة اليهود)، كذلك (موزامبيق)، و(ليبيا)، وقد ردَّ ملك إيطاليا، بأن (هذه أيضاً بلدٌ لآخرين). وقد طمأن هرتسل، الملك بقوله: (تقسيم تركيا، آتٍ، لا محالة)!!. وطرح (ستالين)، انتقاء مشروع لمنطقة يهودية، تتمتع بالحكم الذاتي (بيروبيدجان)، التي تقع في أقاصي آسيا، أي بعيداً عن أوروبا السوفيتية. واقترحت (قبرص) أيضاً، لكنَّ المرشح الأول للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، أصبح منذ (1903)، هو فلسطين. ويُعلّق (جوزيف مسعد) على هذه المعلومات التي استقاها من مراجعهم: هكذا أصبح للصهيونية، ومعاداة السامية، هدفٌ واحد موحّدٌ، تمثَّل بإخراج اليهود من أوروبا، الأمر الذي أضحى مبدأً مؤسِّساً لرؤيتهم (الامبريالية المشتركة). وفي فرنسا، كتب (إرنست لاآران)، السكرتير الشخصي لنابليون الثالث، (عام 1860)، وشدَّد في كتابه (إعادة بناء القومية اليهودية) على جملة المكاسب الاقتصادية التي ستتراكم لأوروبا في حال استوطن اليهود الأوروبيون في فلسطين، كما ثمَّن بشدّة الشعب اليهودي الذي (سيفتح طرقاً رئيسة وفرعية جديدة للحضارة الأوروبية)( ).
1. مخطوطة روحي الخالدي: السيونزم (الصهيونية): (1912):
- في عام (1976)، تلقيتُ (دورة عسكرية) في مخيم شاتيلا في بيروت، بإشراف ضبَّاط من جيش التحرير الفلسطيني (مصر)، أُطلق عليها اسم (دورة الكرامة)، شارك فيها عددٌ من المثقفين الفلسطينيين، أتذكر منهم: الشهيد (جورج عسل)، شقيق المناضل الفتحاوي (الماوي) آنذاك منير شفيق، وسلمان الهرفي، الذي أصبح سفيراً لمنظمة التحرير الفلسطينية في عدد من البلدان الإفريقية، والدكتور (رشيد الخالدي)، الأستاذ حالياً، بجامعة كولومبيا في نيويورك، وغيرهم. كان رشيد يعمل رئيساً لتحرير (نشرة وكالة وفا للأنباء) باللغة الإنجليزية. وربطتني به صداقة وطيدة. وكنا نتحاور أثناء استراحات التدريب، في أمور كثيرة. وفي أحد حواراتنا، ذكرت اسم (روحي الخالدي)، ودوره في الأدب المقارن، وشكوت لرشيد من غياب مخطوطته (السيونزم). وكانت (المفاجأة). قال رشيد: المخطوطة عندي في البيت!!! يا للمفاجأة السارة بالنسبة لي، لأنها تحقق لدي (متعة شخصية)، هي (النبش عن الموروث الفلسطيني الضائع). أتذكر أنَّ رشيد أعطاني (المخطوطة)، واشترط أن أعيدها صباح اليوم التالي، فوعدته ووفيت بالوعد. أتذكر أنني حاولت تصويرها ليلاً، فوجدت محال التصوير مغلقة. وهكذا عكفت على قراءتها وتلخيصها حتى الخامسة صباحاً، وربّما كان ذلك في (شباط 1976). بقي (التلخيص) في حوزتي دون أن أنشره، وعندما عُدت عام 1982 قادماً من (صوفيا) إلى بيروت. التقيت (رشيد)، وعدت أسأله: هل نشرت (المخطوطة)، فأجابني، بأنها ليست بحوزته، لأنه سلَّمها لعمه (وليد الخالدي)، المقيم في أميركا. هكذا قررتُ نشر (الملخص)، في العدد (128)، تموز عام 1982، من مجلة (شؤون فلسطينية)، التي أصبحت (سكرتير تحريرها) في نفس العام. وصدر العدد بالفعل، وتمَّ توزيعه على نطاق محدود، لأنَّ الغزو الإسرائيلي كان يحاصر بيروت. لهذا لم يلفت (الملخص) الانتباه كثيراً، باستثناء بعض المهتمين، العارفين، بأهمية المخطوطة.
- اطلعت على هذه المخطوطة الناقصة (110 صفحات)، عام 1976، وحتى تلك السنة، لم يشر أي باحث عربي لوجودها أو القطع بفقدانها، فقد اعتقد الكثيرون أنها ضاعت مع الكتب والمخطوطات في المكتبة الخالدية في القدس: فالدكتور (إسحق موسى الحسيني)، عند حديثه عن روحي الخالدي، لم يشر إليها على الإطلاق. والدكتور (ناصر الدين الأسد)، الذي أصدر كتاباً عن روحي الخالدي، أشار إليها بقوله: (ورد في الأعلام أن تاريخ الصهيونية مخطوط في المكتبة الخالدية وحدثني الأديب البحاثة الأستاذ (أكرم زعيتر) أن روحي الخالدي ألف كتاباً عن الصهيونية، وأنه بحث عنه وسأل بعض رجال الأسرة الخالدية، ولكنه لم يعثر عليه). والدكتور (عبد الرحمن ياغي)، عند حديثه عن مؤلفات الخالدي، لم يشر لهذه المخطوطة، أما (عرفان أبو حمد الهواري)، فيشير إلى أن هناك مخطوطاً لروحي الخالدي، بعنوان: (تاريخ الصهيونية) ويقول (مات قبل أن ينجزه).
- تقع هذه المخطوطة في (110 صفحات) من القطع المتوسط، وهي مكتوبة بالحبر الصيني، وقد تأكدنا من مطابقة الخط بمقارنتها مع خط روحي الخالدي في مخطوطته: (الانقلاب العثماني) المكتوب عام 1908، والذي نشرت صفحات مصورة منه في نهاية كتاب ناصر الدين الأسد. إضافة إلى ذلك، فإن المخطوطة ناقصة، وهذا واضح من (نهايتها) من حيث عدم استيفاء الموضوع، وعدم وجود أية إشارة تدل على استكماله. وهذا يفيدنا في تحديد تاريخ كتابتها، فإذا عرفنا أن المخطوطة ناقصة، بمعنى أن روحي الخالدي قد كتبها في أواخر حياته، وأنه توفي في عام 1913، وأن بعض الإحصاءات الواردة فيها تعود إلى عام 1908، بمعنى أن روحي الخالدي قد كتبها بعد عام 1908، إذا عرفنا كل ذلك وأضفنا إليه أن روحي الخالدي انتخب عام 1908 عضواً في مجلس المبعوثان العثماني، وانتخب ثانية وثالثة حتى وصل إلى منصب نائب الرئيس، وأنه رجع إلى القدس عند حل المجلس سنة 1912، كل ذلك يجعلنا نضع تاريخاً تقديرياً لزمن كتابة المخطوطة، وهو (عام 1912) تاركين الاحتمالات مفتوحة.
تكمن أهمية هذه المخطوطة في كونها تشكل إحساساً فلسطينياً مبكراً بخطر الحركة الصهيونية. كذلك تكمن أهميتها في أن كاتبها، روحي الخالدي كان على اطلاع واسع على الحركة الصهيونية، وذلك بسبب ثقافته الواسعة، ومعرفته باللغات الأجنبية، والأهم من ذلك (عثمانيته) بمعنى اطلاعه الخاص على الاتصالات الصهيونية بالدولة العثمانية، ومعرفته التفصيلية بالأشخاص والوثائق. بحكم منصبه كنائب لرئيس مجلس المبعوثان، وتردده على الاستانة، بعد استقالته، وعمله كقنصل عام للدولة العثمانية في بوردو في فرنسا ودراسته الجامعية في باريس، كل ذلك يجعل الثقة تزداد بالأرقام وبالوثائق التي يوردها في مخطوطته.
أما ملاحظاتنا على المخطوطة والآراء المطروحة فيها فيمكن إيجازها بما يلي:
أولاً: ينطلق روحي الخالدي، عندما يتحدث عن العلاقات بين الحركة الصهيونية والدولة العثمانية، من قاعدة ثابتة وهي عثمانيته، ملغياً أحياناً عوامل أساسية في فهم أسباب (الرفض والقبول العثمانيين) للحركة الصهيونية، فقد كانت الدولة العثمانية في موقفها، تنطلق من عدة أسباب، مثل: انتظار الدولة العثمانية أن تقوم الحركة الصهيونية بدور الوسيط لحل مشاكلها الأوروبية. ومثل: انتظار الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية أن تساهم في تسديد ديون الدولة، أو لعب دور الوسيط لتأجيلها، هذا من ناحية القبول. أما من ناحية الرفض، فهو نابع من الخوف من المشاعر العربية القومية والإسلامية، إضافة للسبب الطبيعي، وهو الخوف من نمو الحركة الصهيونية (الأوروبية). ولهذا وضعت الدولة العثمانية شروطاً شكلية، لم تمنع من نمو الاستيطان الزراعي في فلسطين. (فقد قدرت مساحة الأراضي التابعة للكيرين كاييمت (الصندوق القومي للحركة الصهيونية العالمية) قبيل الحرب العالمية الأولى، أي في ظل الدولة العثمانية، بنحو (16.396 دونماً).
ثانياً: لغة المخطوطة، هي لغة عصر النهضة الأولى المنفلتة من التقعير اللغوي السائد في العصر التركي: ولهذا، فإنَّ صياغة روحي الخالدي اللغوية، هي أقرب إلى اللغة اليومية منها إلى لغة القاموس. وهذا ما جعل التركيز على المعنى، أكثر من التركيز على فصاحة اللغة. وهذه الظاهرة واضحة، حتى في كتابه: (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب) الصادر عام 1904، والذي يعتبر (أول كتاب في الأدب المقارن) في مطلع النهضة، يعبر عن اتجاه الحداثة العربية المتأثرة بالثقافة الأجنبية.
ثالثاً: يكثر روحي الخالدي من الرد على التوراة والتلمود، وعلى أدب اليهود حول الوعود الدينية بالعودة إلى (أرض الميعاد) بحجج من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. أو بنقض ما ورد في التوراة، نقضاً مثالياً، أي أنه بنقضه يقع في المنهج التوراتي نفسه. ومع هذا، فإن زمن كتابة المخطوطة يبرر له ذلك، فسقوط المنهج التوراتي لم يبدأ إلا بظهور المدرسة التي تركز على (نقد الدراسات التوراتية) دراسة الآثار، كبديل، في زمن متأخر (1985) عن زمن روحي الخالدي، (1912).
نصوص مختارة
1. الصهيونية بين الرفض والقبول:
- يبدأ (روحي الخالدي) مخطوطته بتعريف (السيونزم) فيقول: هي، (مشتقة من كلمة (سيون)، أي صهيون، بزيادة (ايزم) الدالة على الرأي السياسي أو الفكر الديني والفلسفي. وفي اصطلاح الصهيونيين، هي كلمة وضعت للدلالة على (نظرية حديثة) انتشرت بين يهود أوروبا الشرقية، سيما بين يهود روسيا ولهستان ورومانيا وغاليشيا. ويراد بها تأسيس (دولة يهودية) في فلسطين، حيث يهاجر إليها جميع اليهود المتألمين من الاضطهاد المسمى باصطلاح الافرنج: (أنتي سيميتزم= معاداة السامية)، حيث يخرج اليهود من (بلادهم الأصلية) التي ولدوا ونشأوا فيها، ليؤسسوا في فلسطين، على قواعد ملّتهم وطناً خاصاً بهم، تعترف الأمم المتمدنة بوجوده، وتؤمنهم على بقائه تأميناً شرعياً بمقتضى حقوق الدول العمومية. فغاية الصهيونية، هي إيجاد وطن لليهود في فلسطين، بالمهاجرة إليها، وتأمين وجود هذا الوطن بالحقوق العمومية). ويرى (روحي الخالدي) أن الصهيونية ظهرت بعاملين مؤثرين: (أحدهما اضطهاد اليهود) المسمى عند كتبة الإفرنج (أنتي سيمتزم)، وثانيهما، انتباه (الشعور القومي) فيهم، لأن اليهود في عصر الانقلاب الكبير الفرنساوي الذي قامت فيه الحرية مقام الاستبداد، كانوا يعملون على استحصال حريتهم الشخصية، ومساواتهم في الحقوق والتكاليف لبقية أفراد الأمة التابعين لحكومتها). وحول النشاط الصهيوني لتحقيق ذلك يقول روحي الخالدي: (أسسوا (البنك اليهودي الاستعماري)، برأس مال قدره مليونان من الجنيهات الإنكليزية، ومركزة في لندن، وله فروع، في (الاستانة والقدس ويافا وبيروت وحيفا) وغيرها، تسمى بأسماء مختلفة، وأعانوا بأموالهم (الجرائد) التي تدافع عن الصهيونية وتذيع فوائد الاستعمار، كجريدة (جون تورك) في الاستانة، التي تأخذ من (بنك انكلو ليفانتين) ما تحتاج إليه من المصروفات، (مئة وخمسين ألف فرنك) في السنة. ولذا أصبحت إدارتها ومطبعتها في دار عظيمة في جادة التقسيم، وهي من أشهر وأغلى شوارع الاستانة. تعطى فيها الضيافات لأشهر رجال السياسة. وأعانوا جرائد أخرى كثيرة، وكافأوا من خدمهم من الكتاب وأصحاب الأقلام).
- (أما المستعمرات التي أسسها (اليهود المهاجرون من روسيا وأوروبا الشرقية) في فلسطين، بأموال روتشيلد وأمثاله من أغنيائهم، فعدتها في هذه السنين الأخيرة (ثمان وعشرون مستعمرة)، مساحتها 279.491 دونماً، اشتروها بثمن بخس، بمساعدة ولاة البلاد وأغنيائها، وفيها من اليهود المستعمرين: (8000 يهودي).
- وحول (معارضة بعض اليهود للصهيونية) كنظرية، يقول روحي الخالدي:
- (فبعض اليهود يأخذ على الصهيونية عملهم ويقبحه، ويقول بمضرته لعموم اليهود... ويطلب من الحكومة عدم التساهل فيه، ومنع الجرائد الصهيونية المضرة والجمعيات الصهيونية. كما أن بعض الحاخامات والرابيين، يحرم الصهيونية، تحريماً دينياً، لمغايرتها لنظرية ماندلسون، ولمخالفتها أحكام المجتمع الديني (أسقامه):
1. قال (يوسف بثور افف)، حاخامباشي ولاية ايدين، و(مورن هاي لويس)، رئيس المجلس العمومي و(سلامون روديني) رئيس المجلس الجسماني في أزمير، في التلغراف الذي أرسلوه لرئيس مجلس المبعوثان، ولبعض المبعوثين، بتاريخ 27 شباط (فبراير) سنة 1326 مالية: (نرد بشدة، على (النظرية الصهيونية) ونقسم بديننا وناموسنا، أننا مستعدون لأن نسحق، بجميع قوانا، كل حركة لا تتفق مع منافع وطننا المقدس).
2. وقال (بخور موصاحبي افف)، بلسان جمعية الأحناف الموسوية في أزمير أيضاً، في تلغرافه المرسل لمن ذكر: (ملتنا، بلسان واحد ترد وتقبح بكمال النفرة، جنون الصهيونية، فنحن مواطنوكم الموسويون أكبر المعارضين للصهيونية، وهذا الفكر الباطل، إنما هو منحصر في بعض النشرات، المضرة، فبكمال الأهمية نسترحم باسم سلامة الملة إعطاء نهايات لهذه التلقينات المضرة).
- وفي فصل آخر من المخطوطة بعنوان: (التوراة وما ورد فيها من الوعود الصهيونية)، يرد روحي الخالدي على الفكر الصهيوني، من خلال مناقشته للتوراة والتلمود وآداب اليهود، وبالتحديد من خلال (التلمود) المترجم إلى العربية، من قبل الدكتور شمعون يوسف مويال، والصادر عن مطبعة العرب في مصر عام 1909.
2. لمحة تاريخية:
يورد روحي الخالدي مجموعة من الأحداث تتعلق ببدايات الهجرة إلى فلسطين منها (التمس حاخامباشي الاستانة وهو موشيه قابسالي من حكومة (السلطان بايزيد الثاني) ورجال الباب العالي، فأذنوا لهم بالدخول والتوطن، وأمروا الولاة بقبولهم وإسكانهم في مختلف أنحاء المملكة، وجمع لهم موشيه قابسالي، إعانة وزعها على فقراء الجالين، وأسكن (1500 عائلة في القدس، 1700 في صفد، 500 عائلة في دمشق والشام). فكان عدد الذين سكنوا سوريا وفلسطين لا يتجاوز (الخمسة عشر ألف) نفس، أي سدس المهاجرين إلى الممالك العثمانية، وتفرق الباقون في (القسطنطينية وسلانيك وأدرنة وأزمير).
1. (وفي سنة 1750م ظهر إصلاح في ألمانيا لحالة اليهود بواسطة النظرية التي وضعها (موسى مندلسون)، أحد حاخامات برلين، وخلاصتها ضرورة تفريق الاعتقاد الديني الذي لم يزل حياً من التقاليد التاريخية التي تلاشت شيئاً فشيئاً، وأوشكت أن تنقرض وتزول بالكلية، وبتعبير آخر، تفريق الدين عن القومية، وفي سنة 1830 أي بعد استقلال اليونان، وظهور المسألة المصرية، وغليان الأفكار العامة في أوروبا على الدولة العثمانية، بتحريض من الشاعر الإنكليزي اللورد بايرون وغيره من الأدباء وكتاب الجرائد، اعتقد (المؤرخ اليهودي سلفادور) أنه بالإمكان إعطاء فلسطين لليهود، وذلك بتشكيل مؤتمر معترف به من الدول الأوروبية العظمى، وتقرير هذه القضية).
2. (بين سنتي (1835 – 1840) كان (مورتس شتين شيندر)، من بين القائمين بتأليف جمعية من طلبة المدارس لدعوة الناس لإنشاء حكومة يهودية في فلسطين). (وفي سنة 1847، نشر (برتلمي) في جريدة (لوسيكل)، قصيدة حضَّ فيها أسرة روتشيلد، على إعادة (مملكة يهوذا) إلى سابق مجدها. وزار (موسى مونتفيوري)، و(البرت كراميو)، فلسطين، وفرق الأول، الصدقات على فقراء اليهود، وأسس لهم ملجأ يأوون إليه، في مدينة القدس، خارج باب الخليل، على طريق بيت لحم).
3. أمّا عن (أمازيبي هرش غاليشر 1795-1874)، فيمكن القول: إنه (أول صهيوني) بالفعل، وقد حام في كتابه (درس صهيون)، حول استعمار فلسطين وزراعة أراضيها، وإنشاء مدرسة زراعية فيها، وتنظيم قوة عسكرية من اليهود لحمايتها، وكان السبب في تأليف أول جمعية استعمارية في فرانكفورت عام 1861. وفي عام 1864م، ظهرت في (جنيف) رسالة بالفرنسية عنوانها: (يجب على الأمم أن تُعيدَ للشعب اليهودي قوميته).
4. (وفي عام 1868م، نشر (فرنكل) في استراسبوغ رسالة عنوانها: إعادة القومية اليهودية. فاجترأ على المجاهرة بوجوب إعادة دولة اليهود لفلسطين بشراء البلاد من السلطة العثمانية، ثم قال: وإذا لم يمكننا (أن) نشتري فلسطين، فلنطلب (وطناً معيناً) في جهة أخرى من الكرة الأرضية، وهذا ما يرتئيه اليوم حزب (الترتيورياليين)، وهو أحد الأحزاب الموجودة في المؤتمر الصهيوني).
5. (عرض الرحالة الإنكليزي (لورنس أوليفانت)، السياسي الشهير، على الباب العالي، مشروعين أحدهما طلب فيه امتياز خط حديدي يمر بوادي الفرات، ليسكن على جانبيه اليهود المهاجرون من روسيا، والثاني، تشكيل شركة رأسمالها عشرة ملايين روبل، يخصّص منها مليون، أو مليون ونصف مليون دونم من (أرض جلعاد)، وهي جهة السلط، وحوران في فلسطين، لينتقل إليها يهود بولندا، ورومانيا والأناضول، فلم تقبل الدولة العثمانية بأحد هذين المشروعين).
3. الفرمان السلطاني عام 1287هـ:
يورد روحي الخالدي النص الأصلي للفرمان السلطاني الشهير بشأن الاستيطان الصهيوني في فلسطين الذي يبدأ بالقول: (اعتقد مؤسسو (جمعية الإتحاد الإسرائيلي العمومي)، المتشكلة في باريس سنة 1860، أنه بإمكان شراء فلسطين لليهود، وعينوا لاستعمارها، تشارلس نتر، وألبير كوهين، وأنشأوا بضواحي (يافا) مدرسة (مكوى إسرائيل) الزراعية، وأما اسمها في الفرمان السلطاني المؤرخ بـ 3 محرم 1287، فهو (المكتب الزراعي للجمعية العمومية الإسرائيلية).
- (نص الفرمان): (بناء على الاستدعاء المقدم من (شارل نتر)، والمرسل بتحريرات من سفارتي السنية في باريس، المتضمن طلب المساعدة بفتح مكتب زراعي في ضواحي يافا للجمعية الإسرائيلية (اليانس)، على بعض شروط تتعلق بهذا الخصوص، اتخذت دائرة النافعة لشوراء الدولة، قراراً على المضبطة التي قدمتها الجمعية العمومية المذكورة، وصدر تنظيمٌ بموجبها، تقرر فتح المكتب المذكور لتعليم فن الزراعة والفلاحة المرغوبة ترقيته في بلاد دولتي العلية، ضمن القواعد والأصول المخصوصة باسم المكتب الزراعي للجمعية العمومية الإسرائيلية، ويكون تابعاً لقوانين الدولة العليا تحت نظارة المعارف وتحت حمايتي السنية، ويعد من جملة المكاتب العثمانية، ويحدد عدد تلامذته من ثلاثين إلى ستين تلميذاً، تكون مدة إقامتهم في المكتب المذكور للتحصيل ثلاث سنوات، على أن هذا المكتب، وإن يكن قد أنشئ على اسم (أطفال الملة الموسوية)، إلا أنه يقبل فيه تلامذة من سائر الملل والمذاهب، بشرط أن يكونوا جميعاً من التبعية العثمانية، وأن يكون سنهم من 13 إلى 16 سنة، وإذا طلب أحد من الخارج تلقي الدروس فيه، يقبل وتعطى له الدروس مجاناً. أما مقدار الأجرة التي يجب على التلميذ دفعها حين الدخول، فهي من 200 إلى 500 فرنك. ولما كانت الأراضي المطلوبة من الجمعية العمومية الإسرائيلية، لتكون (مكتباً) تقع في لواء القدس الشريف، (هي ألفان وستمائة دونم)، فقد جرى مسحها وتحددت لها أجرة سنوية مبلغ 7500 غرش، وتبقى الأرض المذكورة تحت إجارة هذه الجمعية، ما دام المكتب مراعياً للشروط المقررة، ويدفع بدل إيجار سنة فسنة، وإنما يعفى من دفع بدل الإيجار مدة عشر سنوات، اعتباراً من تاريخ فرماني هذا العالي الشأن، وذلك بصفته لطفاً مخصوصاً من جانب سلطتي السنية، لهذه الجمعية، وهي مجبورة أن تفتح المكتب المذكور خلال سنتين من تاريخه. أما إذا لم يفتح المكتب في ظرف المدة المذكورة، فإنَّه يعتبر حكم هذه الرخصة ملغياً. وإذا فتح المكتب أو تعطل أو أقفلته الجمعية، فيجري تخمين قيمة الأبنية والآبار التي قد أحدثت في الأرض المذكورة بكافة مغروساتها. ثم إن بدل العشر السنوي، الذي يقتضي استيفاؤه عن حاصلات أراضي المكتب المذكور، مهما بلغ مقداره، يعطى من الأموال المحلية، سنة فسنة، بصفة إعانة، أما إذا جرى إخراج شيء من الحاصلات، فيؤخذ رسم الكمرك عنه فقط، وكذلك يُشترط قبل المباشرة ببناء هذا المكتب، تقديم رسمه لمركز الولاية للتصديق عليه، وعلى ما يقتضي الحال لإنشائه المتفرعات بالتدريج على شرط أن لا يتجاوز اللزوم الحقيقي. وقد جرى التنسيب والتصويب على هذه الصورة بمجلس وكلائي الفخام، ولدى عرض الكيفية والاستئذان من ذاتي الشاهانية الشريفة، أصدرت إراداتي السنية الملوكانية بلزوم إجراء ذلك على الكيفية المحررة، وأعطيت أمري هذا الجليل القدر من ديواني الهمايوني المتضمن (الرخصة) بفتح المكتب المذكور، ليد شارل نتر، المومى إليه على أن يكون حكم هذه الإرادة باقياً بدوام مراعاة الشروط المذكورة فيه تحريراً). انتهى الفرمان.
- يضيف الخالدي: (وبموجب هذا الفرمان أجرتهم الحكومة العثمانية (2600 دونم) من الأراضي التي في (منتهى بيارات يافا)، بأجرة سنوية زهيدة، ودفعت عنهم بدل العشر من الأموال المحلية، وأما التلميذ الداخلي فيدفع 200-300 فرنك سنوياً. فتاريخ الأنتي سيمتزم مطابق لتاريخ الصهيونية، أي لظهور الدعوة الأولى إليها، والشروع باستعمار فلسطين، حيث هاجر، في نيسان (إبريل) 1881، إلى فلسطين أفراد من يهود روسيا، وأحدثوا فيها أول مستعمرة يهودية دعوها (ريشون ليتسيون)، وتعرف عند العامة بعيون قارة).
4. الهجرة اليهودية إلى فلسطين:
عندما تولى (أغناتيف)، نظارة الداخلية في بطرسبورغ، بعد أن كان سفير روسيا في (الآستانة)، وضع عام 1881 قانوناً، لإخراج اليهود من جميع المملكة الروسية، وإسكانهم في منطقة خاصة بهم جهة (الغرب)، وروى أنه، لشدة محبته للعنصر السلافي، وحرصه على بقائه خالصاً لا يشوبه عنصر أجنبي، رغب في تطهير البلاد الروسية من عنصري اليهود والألمان، وكان (عدد اليهود في بولونيا 1.200.000) نفس، وعددهم في باقي الممالك الروسية (3.500.000) نفس، وهو أكبر مجتمع لليهود في العالم، وبعد نشر (قانون أغناتيف)، أخذت الحكومة في تطبيقه، وهاج الشعب بسبب هذا القانون وحنق على اليهود، فآذاهم، وشتمهم، وحقرهم، ثم هجم الناس على اليهود، ونهبوا أموالهم، وجرحوا وقتلوا (ثمانية) وجرحوا (211)، وأغلظوا في الشتم والتحقير، وخالط تعصبهم عقائد الفوضويين والاشتراكيين، فمما ضبط من أقوالهم: (نفطر باليهود، ونتغدى بأصحاب الأملاك، ونتعشى بالكهنة). وأضاف روحي الخالدي قائلاً: (فلا عجب بعد هذا الاضطهاد أن انخرط اليهود في حزب النهلست، حيث عملوا على إحداث الثورات والانقلابات). ويضيف روحي الخالدي قائلاً:
(وهنا قام اثنان من أكابر اليهود وأغنيائهم، وهما: البارون هيرش، والبارون دي روتشيلد، وأخذا على عاتقهما مساعدة يهود روسيا، وتهجير المهاجرين بأموالهما، فأسست في 1891 جمعية استعمارية يهودية لإسكان يهود روسيا في مواقع مختلفة، سيما في (الأرجنتين)، ووافقت الحكومة الروسية على هذا المشروع، بتاريخ 19 آذار، مارس 1892، وتعهدت جمعية المهاجرة بإعطاء كل واحد من المهاجرين الفقراء 500 روبل، لكنها لم تأخذ على عاتقها تسفير الشيوخ والمرضى، ولا العائلات التي لها أكثر من ستة أولاد. وبلغ عدد المهاجرين، في الربع الأخير من القرن الماضي، (مليون نسمة من الطلاب والعمال).
- (فتوجه كثيرون منهم نحو فلسطين، وأسسوا الجمعيات الاستعمارية الفلسطينية، المعروفة باسم شوفيفي زيون (أحباء صهيون)، ومعناها الغيورون على صهيون، وأخذوا في جمع الأموال، وإنشاء الشركات، وشراء الأراضي بظاهر (القدس، وغيرها من مدن فلسطين)، وإنشاء المستعمرات الصغيرة، وذلك بأن تشتري الشركة أرضاً واسعة، وتنشئ عليها خمسين داراً أو أكثر، تشتمل كل دار منها على غرفتين أو ثلاث غرف ومطبخ ومخزن وما يتبع ذلك، بحيث تكون الدار صالحة لسكنى أسرة يهودية وإيواء أفرادها، وتوسم كل دار برقم، ويعطى المهاجر رقماً يكون (له) بموجبه دار يدفع ثمنها، بالتدريج، مقسطاً على خمس عشرة أو عشرين سنة، ويصبح بعد ذلك صاحب ملك. وعلى هذا الوجه أحدثت جميع العمارات والبنايات اليهودية التي بظاهر القدس، وهي اليوم تزيد على أصل المدينة المحاطة بالسور بأربعة أو خمسة أمثالها).
- وقد نشر (إسحاق رولف) رسالته المشهورة: أروهات بات امي أي (مجموعة بنت أمتي)، ونشر بن يهودا، في جريدة (الهاشار) الصادرة في القدس، مقالات متتابعة في الحض على استعمار الأراضي المقدسة، وتوطين اليهود تدريجياً فيها، زاعماً أن ذلك هو الواسطة الوحيدة لخلاص اليهودية واليهود، وقد أخذ من أجل ذلك للمحاكمة، واستأنف الحكم الصادر عليه في بيروت، وتبرأ بمعونة أصدقائه من المسلمين والمسيحيين.
- وعقدت (جمعية شوفيفي زيون) والجمعيات الأخرى، بتاريخ 6/11/1884، مؤتمراً حضره (نواب خمسين جماعة وجمعية من اليهود)، وتداولوا في تنظيم شؤون المستعمرين، وفي إعانتهم لما يحتاجون إليه. وفي 15/6/1887، عقد مؤتمر آخر في درسفنيك، وفي 1889، عقد مؤتمر ثالث في فيلنا في بولندا حضره 38 عضواً عن 35 جمعية من هذه الجمعيات التي تسعى إلى استعمار فلسطين ونقل اليهود إليها.
- وأسست في (ألوية القدس ونابلس وعكا) أي في فلسطين الوسطى، وأرض الجليل نحو (عشرين مستعمرة)، وكادت المستعمرات الزراعية أن تحبط مساعيها، لو لم يتكرم عليها البارون أدمون دي روتشيلد، ويمدها بإعاناته وأمواله الكثيرة، ويشوق اليهود لزراعة الأراضي وغرس الكروم، ويدربهم على أعمال الفلاحة والزراعة بواسطة وكلائه وعماله، ولكنه أخفق في مشروعه هذا؛ إذ (لم يكن عند اليهود قابلية لذلك)، فإن قابليتهم أكثر في سكنى المدن والمعاملات التجارية والصرافة، لا في سكنى القرى وفلاحة أرضها، وقد بلغت حركة الاستعمار (الصهيوني) أشدها عام 1894م، حينما نهض (الأرمن) للمطالبة باستقلالهم، وألفوا الجمعيات السرية والثورية، وكان (البارون دوهرش) شديد النفور من استعمار فلسطين (لسببين)، أحدهما اقتصادي، وآخر سياسي، أما الاقتصادي فهو ضعف القوة الإنباتية في أراضي فلسطين بالنسبة لأراضي أمريكا الجنوبية، وقلة إنتاجها الزراعي، أما السياسي، فهو معارضة الدولة العثمانية لهذا المشروع.
- ثم يفرد روحي الخالدي فصلاً عن حياة هرتسل، وعن المؤتمرات الصهيونية، من مؤتمر بازل الأول عام 1897، وحتى المؤتمر السابع عام 1905، ومما يورده روحي الخالدي هو (عدد الجمعيات الصهيونية، القديمة والحديثة، في العالم، حتى عقد المؤتمر الثاني في نيسان (إبريل) 1898)، وهي مقسمة إلى النحو التالي:
- (روسيا – 373، أوستريا (النمسا) – 218، هنغاريا (المجر) – 260، رومانيا – 127، إنجلترا – 26، ألمانيا – 25، إيطاليا – 21، بلغاريا – 16، سويسرا – 6، فرنسا –
3، البلجيك – 2، الدولة العثمانية – 2، البرتغال – 6، أميركا – 6). ويعلق (روحي الخالدي) على هذا الإحصاء بقوله: (يصور لنا هذا الإحصاء خريطة الأنتي سمتزم في أوروبا، ويرينا تفاوت درجاته، فالبلاد التي سادت فيها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، لم تنتشر فيها الفكرة الصهيونية انتشاراً جدياً مهماً).
5. المؤتمر الصهيوني الأول في فلسطين (1903):
في 23-28/8/1903، انعقد مؤتمر صغير في زمارين (زخارون يعقوب)، وهي مستعمرة يهودية بالقرب من حيفا، برئاسة أوسيشكن، وكان القصد منه أن يكون مؤتمراً مصغراً عن مؤتمر بازل، وحضره خمسون عضواً، وكان أوسيشكن قد لقب بأمير اليهود (البرنس)، ونشر رسالته بعنوان: (البرنامج)، لخص فيها أمل الصهيونيين:
أولاً: لأحرار اليهود في فلسطين، قصب السبق في العلم وفي الثورة.
ثانياً: جمعهم وتنسيق قواهم العمومية.
ثالثاً: زيادة الشعور القومي في أمة اليهود.
رابعاً: بذل المساعي اللازمة بالطرق الدبلوماسية، للوصول إلى مقصدهم، وهو خلق قومية يهودية، ووطن في فلسطين.
ويجتمع المؤتمر مرة في السنة. وقسم إمارة فلسطين إلى ستة ألوية هي:
1. القدس، وحبرون (الخليل)، وموته، وعرتوف، وهي على بعد ساعة من دير بان.
2. المستعمرات اليهودية التي حول الرملة، وهي: عيون قارة، وادي حنين، بير يعقوب، روحبوت، عاقر، الخفيرة.
3. يافا وملبس.
4. الخضيرة، زخرون يعقوب، حيفا.
5. الناصرة وطبريا والمستعمرات المجاورة.
6. صفد، ومستعمرات الجليل.
6. الصهيونية والصحافة:
أنشأوا لهم (اليهود) عدة صحف، في روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وبلغاريا ومصر. ولهم في (القدس) عدة صحف عبرانية، ولهم في الاستانة وسلانيك وأدرنة، جرائد بالإسبانية والفرنسية، وأشهر جرائدهم الفرنسية في الاستانة جريدة (اورور)، ومعناها الشفق، ولها مخصصات سنوية تدفع من بنك انكلوليفانتين في الأستانة، واشتروا الجرائد المشهورة، فابتدأوا بجريدة (اقدام)، ودسوا لمديرها أحمد جودت بك إصدار جريدة بالفرنسية فأصدر (أوريان) بقلم البرفوا، فأخذ يحرر المقالات المناسبة للصهيونيين ويخفي مقاصده الصهيونية، ثم صار يراجع رئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا بك وغيره من متنفذي الجمعية لعقد المؤتمر الصهيوني في الأستانة، ولما عارضوا، نقم البرفوا على أحمد رضا بك وطعن به في رسالته المشهورة. ثم استخدم الصهيونيون جريدة (جون ترك) الفرنسية التي أصدرها جلال نوري بك، وانتهوا بشراء الجريدة، وتعيين راتب شهري لجلال نوري، وعينوا مديراً للجريدة (رودبرغ). وللجريدة اعتبار مالي عند بنك انكلوليفانتين لغاية 150 ألف فرنك سنوياً، ويستخدم في تحرير الجريدة من غير اليهود لكي لا يسيء الناس الظن بها، واستعملوا هذه الواسطة مع بعض الجرائد السورية كجريدة (النصير) الصادرة في بيروت، وجريدة (النفير) الصادرة في القدس، وجريدة (الأخبار) الصادرة في يافا، فإذا نشرت مقالة في جريدة النصير مثلاً في الدفاع عن الصهيونية، نقلتها (جون ترك) في الحال، وأوهمت أن الدفاع ورد من جرائد سوريا المعتبرة.
7. الأحزاب الصهيونية:
7-1. فرقة الحكومة: حزب هرتسل، وبرنامجها هو ما صرح به هرتسل في المؤتمرات، وأهمها السعي في الحصول على وطن لليهود في فلسطين والبلاد المجاورة لها، وهي من قرارات بازل.
7-2. فرقة الوسط: وتسمى الفرقة المزراحية (الشرقية). وهي فرقة لليهود المتدينين التي ظهرت في المؤتمر الخامس عام 1901، وصارت فرعاً من حزب الراديكال، ورئيسها الرابي إسحق يعقوب ديناس، بلغ عدد أعضائه 11 ألفاً، سنة 1903، وعقدوا مؤتمراً مزراحياً عمومياً في بطرسبرغ عام 1904، وذلك بعد وفاة هرتسل بشهر، وعقدوا مؤتمراً في لندن عام 1904، وفي نيويورك وأنشأوا جريدة (جورنال السبت)، وحافظوا على التقاليد اليهودية التي هي من أصول الدين). وظلوا يصوتون مع حزب الحكومة، ويمكن القول: إنهم فرقة (صهيونية متدينة محافظة على أحكام التوراة والتقاليد الدينية).
7-3. فرقة (بوعالي تسيون): (بوعالي تسيون: عمال صهيون)، وهي الحزب الديمقراطي أو حزب اليسار وبينهم أفراد من مشاهير الاشتراكيين، ويكثر هذا الحزب في النمسا وسويسرا، ومنهم جماعة هاجروا بأفكارهم الاشتراكية، وسموا أنفسهم (فرقة العمال الاشتراكية الصهيونية في لندن وباريس). عقدوا اجتماعهم الأول في 29 نيسان (إبريل) 1904، وكانت لهم جريدة (نيوشتمي). والظاهر أن هذه الفرقة (تخدم غرضها الاشتراكي أكثر من خدمتها للآمال الصهيونية)، وتعارض في استعمار فلسطين لما في ذلك من الصعوبات والعقبات، وهناك من الذين يعارضون الصهيونيين مَنْ رفضوا مساعدة يهود رومانيا عام 1897. ثم تفاهموا مع الصهيونيين وتقربوا إليهم وأصبحوا (قوميين).
7-4. فرقة (زيون زيونيست): ظهرت بعد المؤتمر السادس، على إثر مناقشة استعمار شرقي إفريقيا، ورأس هذه الفرقة أوسيشكن، وعارض هذه الفكرة، ونشر رسالة (برنامجنا)، وألفت هذه الفرقة جمعية للاستعمار سمتها: (غيلا)، وبلغ عدد هؤلاء بعد المؤتمر السابع 360 عضواً.
7-5. فرقة التريتوياليين (الإقليميون): وهي الفرقة التي تدعو لإيجاد وطن لليهود في فلسطين، أو في غيرها (كأمريكا الجنوبية أو شرقي إفريقيا)، ولعبوا دوراً في المؤتمر السادس لقبول ما عرضته الحكومة الإنجليزية عليهم من استعمار شرقي إفريقيا. ورئيس هذا الحزب هو إسرائيل زنكويل.
8. جمعية الأليانس الإسرائيلية:
هي (اليانس ايزرائيليت اينوفرسيل)، أي جمعية الاتحاد الإسرائيلي العمومي: أسست عام 1860 في (باريس)، وأهدافها:
أولاً: العمل في كل مكان على حرية وارتقاء أخلاق اليهود. ثانياً: إعانة الذين يتألمون بسبب كونهم يهوداً. ثالثاً: توزيع النشريات الموصلة لهذه الغاية.
- وأول مدرسة أسستها جمعية الأليانس، كانت في (مدينة تطوان) في الجزائر عام 1862( ). ثم مدرسة (مكوى إسرائيل) الزراعية بالقرب من يافا، لتعليم اليهود فن الزراعة، وقد بلغ عدد مدارس الأليانس عام 1885، 49 مدرسة، عدد تلاميذها 8880 تلميذاً، وفي عام 1890 بلغ 54 مدرسة، فيها 11500 تلميذ، وفي عام 1895 بلغ عددها 70 مدرسة فيها 16000 تلميذ، وفي عام 1908 بلغ عدد المدارس 142 مدرسة وفيها 41 ألف تلميذ.
وفيما يلي (عدد مدارس الأليانس) باعتبار البلدان نصفها للصبيان ونصفها للبنات:
اسم البلد العدد اسم البلد العدد
مراكش 20 إيران 11
آسيا العثمانية 16 طرابلس الغرب 2
بلغارستان 12 الجزائر 6
سوريا الطبيعية 19 مصر 8
تونس 7 أوروبا العثمانية 35
العراق 6
المجموع = 142 مدرسة
- أما عدد الأساتذة المتخرجين في دار المعلمين، فبلغ عام 1908 (1250) أستاذاً، استخدمت الأليانس منهم (282)، وبلغت مصروفات المدارس عام 1908، مليونين من الفرنكات، ولجمعية الأليانس، دار للمعلمين في باريس يقال لها: دار المعلمين الإسرائيلية الشرقية، اعترفت بها الحكومة الفرنساوية، وعدد طلبتها 87 طالباً في عام 1908، ومصروفاتها (106174) فرنكاً، وقد أعانتها زوجة البارون هيرتس وغولد سميث.
- (إلى هنا يتوقف المخطوط) – ص110.
9. خلاصة (المخطوط):
أولاً: استقبل السلطان العثماني (بايزيد الثاني)، (عائلات يهودية)، أسكنهم في فلسطين وسوريا، وهم: (1500 عائلة في القدس، و1700 عائلة في صفد، و500 عائلة في دمشق). وكان عدد اليهود في الولايات العثمانية، هو (15 ألف نسمة)
ثانيا: حتى الحرب العالمية الأولى، امتلك اليهود، (16.396 دونماً) في فلسطين، في ظل الدولة العثمانية.
ثالثاً: أول مستوطنة، حسب الخالدي، هي (ريشون ليتسيون = عيون قارة) عام 1881م، وسكانها من (اليهود الروس)، لكن مراجع أخرى، تشير إلى أنَّ أول مستوطنة في فلسطين، هي (بتاح تكفاه، 1877م).
رابعاً: كانت منطقة (جلعاد) في شرق الأردن، هدفاً من أهداف الإستيطان الصهيوني، لكن الدولة العثمانية، لم توافق.
خامساً: عدد المستوطنات الصهيونية، (قبل 1912)، هو (28 مستوطنة) في فلسطين: مساحتها (279.491 دونماً)، وعدد سكانها، هو (8000 يهودي)، جاءوا من أوروبا.
سادساً: صدر (قانون أغناتيف) في روسيا، سمح فيه لليهود بالهجرة، وذهب عدد كبير منهم إلى فلسطين، عام (1881).
سابعاً: يشير الفرمان السلطاني (1287هـ) إلى أنَّ السلطان، سمح بتأجير (1600 دونم)، بضواحي (يافا) للمكتب الزراعي للجميعة العمومية الإسرائيلية.
ثامناً: عقد أول مؤتمر صهيوني في فلسطين، عام 1093، وهو مصغَّر للمؤتمر الصهيوني العام، وكان ذلك في البلدة الفلسطينية زمَّارين (مستوطنة زخارون يعقوب).
تاسعاً: لم تكن الحركة الصهيونية في مؤتمراتها، قد حسمت أمر (احتلال فلسطين)، إلاّ في (عام 1903)، حيث كانت الحركة، تفتش عن أمكنة أخرى في العالم، (لشراء وطن!). وعارضت تيارات متعددة يهودية، (احتلال فلسطين)، ووصفوا عمل الحركة الصهيونية، بِـ(الجنون!!). وارتبطت الهجرة اليهودية، بموقف أوروبا (المعادي للسامية) من اليهود، وضرورة الخلاص منهم، فكانت مصلحتها، تتطابق مع (الاستعمار).
عاشراً: اشترت الحركة الصهيوينة، عدداً من الصحف، منها (جون تورك، أوريان، اقدام، أوررو في الآستانة)، و: النصير (بيروت)، والنفير (القدس)، والأخبار (يافا)، للدعاية الصهيونية.
الهوامش
( ) صلاح الدين البحيري: جغرافية فلسطين، نقلاً عن كتاب: المدخل إلى القضية الفلسطينية، مركز دراسات الشرق الأوسط، عمّان، ط2، 1997، (بتصرُّف).
( ) نجيب عازوري: يقظة الأمة العربية، ترجمة: أحمد أبو ملحم، المؤسسة العربية، بيروت، ط2، 1998 – (بتصرف).
( ) صقر أبو فخر: الحركة الوطنية الفلسطينية، المؤسسة العربية، بيروت، 2003. ملاحظة: أول مستوطنة، هي (بتاح تكفاه، عام 1877م)، وكان عدد أبناء الطائفة اليهودية، آنذاك، هو (1800 فرداً) فقط (ع.م).
( ) محمد الفرا: الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الخامس، بيروت، 1990.
( ) جوزيف مسعد: ديمومة المسألة الفلسطينية، دار الآداب، بيروت، 2009، (بتصرُّف محدود).
( ) تطوان في المغرب وليست في الجزائر كما ورد في المخطوطة.