كثرة الأحزاب وانخفاض قوة الكبيرة منها وقائع معروفة. ولكن يبدو انه لا أحد يبدي ما يكفي من الاهتمام بالصيرورة العميقة التي تجري في البلاد، خارج نطاق الاهتمام بالنمائم المتعلقة بالمشاهير ممن ينضمون للاحزاب. هذه الصيرورة متصلة بالتغييرات الديموغرافية. فبعض المجموعات ازدادت قوة: «الحراديم» يشكلون اكثر من 10% من عدد السكان في اسرائيل، ومع ما معدله ستة اطفال للمرأة الحرادية ستستمر قوتهم بالازدياد إلى ما يقارب ال 25% في منتصف القرن الـ 21. هناك ايضا مجموعة تزداد حجما باستمرار مكونة من المتدينين والمتمسكين بالتقاليد – نحو 34% من حجم السكان حاليا، وفقا لتقدير حذر. حصة العرب من السكان، وخصوصا المسلمون، تجاوزت الـ 20%، وما زالت بازدياد، ومن الجهة المقابلة فإن السكان العلمانيون، اصبحوا يشكلون منذ الأن اقل من الثلث.
لهذه المجموعات اساليب اقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة بها. نسبة الفقر لدى «الحراديم» والعرب هي الاعلى جراء تجمع عدد من الاسباب، أهمها انعدام المشاركة او عدم النجاح في سوق العمل، إضافة إلى عدد أكبر من الانفس في كل عائلة. لهذه المجموعات مميزات سياسية بارزة. لذلك، وبسبب التغيرات الديموغرافية إزدادت قوة المجموعات الحرادية والدينية، وهذا سيؤدي إلى تغيرات سياسية، في القدس على سبيل المثال سبق وأن ابدت الديموغرافيا إشاراتها: في انتخابات 2013 صوت نحو 74% من سكان القدس (اليهود – فالعرب سكان المدينة ليس لهم حق التصويت للكنيست) لصالح احزاب اليمين و»الحراديم». لو ان الانتخابات على المستوى الوطني اعطت النتائج ذاتها لكانت النتيجة على وجه التقريب نحو 90 عضو كنيست.
لإدراك أبعاد التغيير الديمغرافي، علينا ان نتخيل أنموذجا تم فيه وضع اقتراح تسوية بين الاسرائيليين والفلسطينيين على طاولة الكنيست، والخطوط العامة لهذا الاقتراح تشبه الاتفاق الذي تم بين يوسي بيلين ومحمود عباس في الثمانينيات، او للمعايير التي وضعها بيل كلنتون، رئيس الولايات المتحدة سنة 2000، او للتفاهمات التي انجزت بين إيهود اولمرت ومحمود عباس سنة 2008 (الفروقات في الخطوط العريضة لهذا التفاهمات والمعايير قليلة). كيف ستصوت الكنيست؟ وفقا لتقديري، كانت الكنيست الـ 19 الخارجة ستصوت ضد الاقتراح بأغلبية ضئيلة، 61 عضو كنيست مقابل 59. ولكن ووفقا لمتوسط الاستطلاعات الاخيرة، فإن الكنيست القادمة سترفض الاقتراح بنسبة اكبر من سابقتها، 65 مقابل 55 او ربما 70 مقابل 50. كلا التقديرين مبنيين على الافتراض بأن اليمين (الليكود، البيت اليهودي، اسرائيل بيتنا وكولينو) واحزاب الحراديم ستصوت ضد، وان يش عتيد (يوجد مستقبل) ستصوت كاملة مع الحل (وما هو ليس واضحا البتة أن يئير لبيد لم يبد حتى الان اهتماما كافيا بالسلام). الكنيست الـ 21 سوف ترفض اقتراح الحل بأغلبية كبيرة اكثر بكثير. بمعنى، تركيب المواقف في الكنيست يتغير وفقا للتغير الديمغرافي، ونظرا لاندماج الافيون الديني – السياسي المميز لكل مجموعة سكانية.
في الماضي القريب، كانت الفوارق السياسية بين المجموعات السكانية مرتبطة إلى حد كبير بالفوارق بين «الشرقيين» و «الاشكناز». وهذا نابع من الاصول شديدة التنوع للشعب الاسرائيلي، وواقع أن الشعب اليهودي كان موزعا على مناطق جغرافية مختلفة جدا، بما في ذلك الاختلاف الثقافي. هذه الفوارق تقلصت مع الزمن. الفوارق الفعلية اليوم اصبحت مرتبطة بالدين. من المهم التأكيد أن الدين ودرجة التدين مرتبطان بالقومانية والموقف السياسي.
للرابط السياسي هذا عدد من الابعاد. البعد الاول هو الفارق بين اليهود والمسلمين: في اسرائيل مجموعتان سكانيتان يظهران وكأنهما لا ينتميان للدولة ذاتها. على سبيل المثال، من «الواضح» للجميع، أن الحزب العربي (القائمة الموحدة) لن تنضم إلى اي ائتلاف حكومي. وهذا امر بديهي، إلى درجة انه لا أحد يدرك بأن أمرا كهذا في دولة ديمقراطية أخرى لا يمكن له أن يحدث.
البعد الثاني ليس اقل حدية، وهو الفارق بين الحراديم والعلمانيين، والذي وجد تعبيره سابقا في حزب تومي لبيد المتوفى ولبيد الابن. هذه مجموعة سكانية من 15 عضوا في الكنيست- اكثر قليلا من وزنها السكاني. البعد الثالث هو علو المجموعة الدينية القومانية، فهي الآن بارزة في الجيش وطبقاته القيادية، كما يلحظ ازدياد قوتها سياسيا في «البيت اليهودي».
من غير المفاجئ أن عددا من السياسيين شخص هذه التغيرات وهم يركبون فوقها، كل على طريقته. في الوضع الذي يتم فيه الازدياد في قوة المجموعات الدينية – القومانية، فمن الطبيعي ان يحدث الاصطدام مع القيم الديمقراطية وحكم القانون. ليس من العجيب ان موضوع الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية تصاعد الجدل حوله في اوساط الجمهور الاسرائيلي. وعلى هذه الخلفية اثيرت المحاولات لسن قوانين لا ديمقراطية في الكنيست خلال السنتين الماضيتين، ولها عامل مشترك واحد هو اقصاء «الآخر» واضطهاد الاقليات.
إلى أين ستصل اسرائيل مع التركيب الديمغرافي هذا؟ من الصعب ان نعرف ومن الخطير ان نتنبأ. ولكن الاتجاه نحو دولة أكثر دينية واقل ديمقراطية من النوع الذي نراه في عدد من دول الجوار ممكن بالتأكيد. وهذه مسيرة معكوسة عما جرى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فهذه عملت على كسر الارتباط بين الدين والقومية، والتأكيد على فصل الدين عن الدولة. للمجموعات المختلفة في اسرائيل لا يوجد تقاليد ديمقراطية على مدى طويل من الزمن كي تتأسس عليها، والروح الثقافية العلمانية في الدولة تبدوا هشة. الصورة المتغيرة للكنيست تبشر بالصورة المتغيرة للدولة والمجتمع.
عن «هآرتس»