صور زعمائنا بين التقديس و التلويث

thumbgen (15).jpg
حجم الخط

 

ولد جمال عبد الناصر عام 1918 أى منذ مائة عام ولقى ربه فى سبتمبر 1970؛ و لم يكن غريبا أن يختلف الناس حول قامة مثل عبد الناصر. أنجز و أخفق و نجح وفشل ثم مضى إلى دار الحق؛ وخلفه السادات الذى كانت له بدوره من الإنجازات والإخفاقات الشيء الكثير، وكان طبيعيا أيضا أن يثور الجدل حول السادات، وأن يكون الجدل أشد ضراوة خاصة أنه أقدم على كسر كثير من «المحرمات» السياسية، وعلى رأسها إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

ويحرص بعضنا على تقديس زعيم يحبونه فيقتصرون على ذكر كل إيجابياته؛ بل وتحويل سلبياته إلى إيجابيات؛ ويحرصون فى نفس الوقت على تلويث من يكرهون مقتصرين على ذكر سلبياته و تحويل إيجابياته إلى سلبيات.

و يحضرنى فى هذا المقام كتيب أصدره الصديق الراحل فيليب جلاب عام 1974 ثم أصدر طبعته الثانية عام1985 بعنوان «هل نهدم السد العالي؟» ثم مضى فيليب يعرض بالتفصيل ما نسب إلى السد العالى من مصائب لحقت بمصر ابتداء من اختفاء السردين إلى تعريض مصر للزلازل، ولا يفوت فيليب بطبيعة الحال أن يقرر أن السد العالى بل وثورة يوليو وجمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتى كلها أمور قابلة للنقد والتقييم. ولكن المشكلة هى الخلط بين السياسة و التكنولوجيا بحيث لا نعرف هل من يهاجمون يهاجمون السد العالى لأن الذى بناه عبد الناصر، أم يهاجمون عبد الناصر لأنه بنى السد العالي.

هل أنت مع عبد الناصر أم السادات؟ سؤال يتردد كثيرا، ولقد ووجهت بهذا السؤال كثيرا، وكانت إجابتى إننى دون شك مع قرار بناء السد العالي، ولكنى بالتأكيد ضد معسكرات التعذيب والقتل الناصرية. إننى مع قرار حرب أكتوبر ولكنى ضد اعتقالات سبتمبر. إننى مع إقامة اقتصاد وطنى و لكنى ضد ظاهرة القطط السمان. إننى مع تحرير الاقتصاد ولكنى ضد نهب البنوك.

كنت حين أجيب بهذه الطريقة أرى علامات الاستياء بل والاستنكار تبدو على وجه المستمع، فإذا كان «ناصريا متعصبا» قال لى «لماذا هذا الموقف الزئبقي؟ إنك ساداتى حتى النخاع لم لا تقلها صراحة؟». أما إذا كان المستمع «ساداتيا متعصبا» فإنه يردد مضمون العبارة السابقة مستبدلا بصفة الساداتية صفة الناصرية.

ترى لماذا يثير ذلك النوع من الإجابات ضيقا لدى بعض من يتلقونها. لنعترف أولا أنها إجابات غير قاطعة بمعنى أنها لا تصدر حكما نهائيا إما أبيض وإما أسود. إنها إجابات «غامضة» لا تشفى غليل تلك الفئة من المتلقين، الذين تغلب عليهم صفة الانتماء الايديولوجى القاطع. ويزودنا تراث علم النفس الاجتماعى بحقيقة مؤداها أن أمثال هؤلاء لا يستطيعون تحمل حكم لا ينتهى إلى إدانة «الآخرس» إدانة تشمل جميع ما صدر عنه وتمجيد «الذات» تمجيدا يخفى كل العيوب والسلبيات.

ومثل هؤلاء لا يخلو منهم أتباع أي إيديولوجيا أو تيار فكري، سواء كان ماركسيا أو قوميا أو ناصريا إلى غير ذلك. إنها ظاهرة التعصب الفكري. ورب من يتساءل وبحق: هل يمكن أن تمضى بنا الحياة دون إصدار أحكام قاطعة؟. دون أن نحدد مواقفنا مع أو ضد؟ ألا نصدر فى ممارساتنا اليومية مثل تلك الاختيارات القاطعة التى لا يمكن أن نمارس حياتنا الاجتماعية أو السياسية دونها؟ إننا فى تصحيح الامتحانات مثلا لا نستطيع الوقوف عند حد رصد الصواب والخطأ. لابد من إجراء حسابات الطرح و الجمع لنصل إلى قرار نهائي.

الرسوب أو النجاح. وكذلك الحال بالنسبة للعديد من القرارات التى نتخذها فى حياتنا اليومية. قرارات الزواج واختيار التخصص الأكاديمى أو المهني. فى مختلف تلك الأحوال يفترض أن يقوم الفرد فى البداية بعملية الموازنة بين السلبيات والإيجابيات. بين المكسب و الخسارة. ولكنه لابد فى النهاية أن يتخذ قرارا حاسما. أما إذا ما توقف عند حدود المفاضلة، فإننا نصبح حيال ذلك النمط المتردد العاجز عن اتخاذ قرار مما قد يفقده جانبا مهما من جوانب الإنجاز. كل هذا صحيح، ولكن الأمر يختلف إذا كنا بصدد تقييم شخصية أو مرحلة تاريخية.

فرغم أن الشخصيات التاريخية لا يمكن أن تخلو من السلبيات أو الإيجابيات، وكذلك المراحل التاريخية تكون خليطا من هذا وذاك، إلا أننا لا يجوز أن نعمل أسلوب الطرح والجمع للتوصل لحكم نهائى بشأنها. فالتقييم التاريخى لا يستهدف التوصل إلى قرار بقدر ما يسعى للإسهام فى صنع المستقبل باستخلاص الدروس المستفادة من المراحل الماضية لتكون هاديا لأبناء المرحلة الراهنة لصياغة المرحلة المقبلة. والدروس المستفادة لا يمكن إلا أن تكون فرزا للسلبيات، وتبين أساليب تحاشى تكرارها، وإبرازا للإيجابيات و الدعوة للتمسك بها.

عن الأهرام