في المقاربة الوحيدة، المطروحة من الجانب الرسمي الفلسطيني، أننا نتطلع الى إطار وسيط متعدد، يتولى العمل على التوصل الى حل، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية غير مؤهلة للعب هذا الدور. وفي هذا السياق، يجري التركيز على الأوروبيين والروس والأمم المتحدة، وهي أطراف كانت ولا زالت حاضرة نظرياً من خلال ما يسمى "اللجنة الرباعية"، لكن تأثيرها على صعيد المسائل الجوهرية، لم يكن وازناً عندما لم يكن موقف الإدارة الأمريكية بهذه العنجهية، وبهذا الشطط، وعندما كان متاحاً للأوروبيين أن يجدوا لأنفسهم دوراً أثقل وزناً في محاذاة دورهم. وبالمناسبة، نحن أسهمنا في إضعاف الدور الأوروبي، من خلال تقبل الدور الأمريكي المنفرد.
اليوم، الأوروبيون لهم شكايتهم من إدارة ترامب نفسها، وإسرائيل تركز على الدور الأمريكي، وقد ظلت لديها صيغة للتعاطي مع الأروربيين، على الرغم من انتقاداتهم الخافتة لها، واعتراضهم على الكثير من الممارسات الإسرائيلية. وعلى هذا الصعيد، ضمنت تل أبيب التعايش مع الفتور في علاقاتها الأوروبية، وعدم القطع مع الروس، وقد تعايش الأوروبيون والروس مع عناد تل أبيب!
في المحصلة، لا يُرجى من الأوروبيين ومن الروس دوراً حاسماً، مثلما لا يرجي من المتطرف الهندوسي صديق إسرائيل، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، دوراً منصفاً، مهما قيل عن زيارة وشيكة له الى رام الله، ظاهرها أنه جاء ليأخذ دوراً في عملية تسوية، بينما هو في الواقع، يزور المنطقة، لمتابعة عملية انطلاق فعاليات الاتفاقات المبرمة مع إسرائيل، أثناء زيارة نتنياهو الأخير الى دلهي!
منطق الأمور ومقتضاها، يوجب الإعتراف بأن الانسداد السياسي مع واشنطن وتل أبيب، يتطلب إعادة تجميع الأشتات الفلسطينية، والتوافق بين الأطياف، على استراتيجية عمل وطني واحدة، حتى لو اضطرتنا العقبات الى الاستعانة بالأطراف الإقليمية ذات التأثير على الأطراف الفلسطينية. فالشعب الفلسطيني يتطلع الى التوافق الوطني على قاعدة المحددات الدستورية والقانوينة. وقد بات واجب الكل الفلسطيني أن يتوقف وقفة موضوعية مع النفس، وأن يتذكر أن كل المراحل التي مرت وكنا فيها موحدين ولو بالحد الأدنى، كان لنا الوزن السياسي الذي يجعل الأطراف الدولية أقرب الى موقفنا أو أقل جفاءحياله.
في هذه الأثناء، بدأت قيادة السلطة الفلسطينية، في التراجع التدريجي عن الموقف الحاسم ضد إدارة ترامب، وهو موقف أريد منه بالدرجة الأولى، ترضية الفلسطينيين وامتصاص غضبهم، دونما تغيير في السياسات الأمنية على الأرض. وكذلك ليست هناك إشارة، تعطي أملاً بأن الأمور في الداخل يمكن أن تتغير الى الأفضل. فكأن هذه القيادة، تسعى الى كسب الوقت للاستمرار في هزالها السياسي وعنفوانها السلطوي. ويستَدِلُ واحدنا على بدايات هذا التراجع، من خلال تطورين، الأول هو تنقيح صيغة الرفض التام لضلوع أمريكا في عملية الوساطة أو ما يسمونها "الرعاية" للعملية السلمية، بسبب انحياز ترامب واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. فقد أصبح الحديث عن إطار تعددي تشارك فيه أمريكا. وكأن أمريكا عندما تشارك، لن يكون رأيها هو الضاغط والحاسم الذي من شأنه وبمقدوره إفشال أي تقدم في العملية السلمية. أما التطور الثاني، فهو ظهور دور لرجال أعمال فلسطينيين، لن يجرؤ أيٌ منهم على المبادرة واللعب في القضية الوطنية، ما لم يكن مُكلفاً من قبل عباس نفسه، لا سيما عندما يكون المبادرون مجموعة منهم وليس فرداً. فرجال الأعمال الفرادي، لن يتوافقوا حتى على مشروع ربحي. فهم بطبيعتهم متنافسون، وبالتالي فإن اجتماعهم محض تكليف سياسي، بمهمة جس نبض واستدراك والبحث عن صيغة أخف وطأة نظرياً، تفتح المجال لعودة الدور الأمريكي. فهذه طريقة معروفة، مرت في تاريخ الصراع، وسُمعت للمرة الأولى، بلسان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وبعدئذٍ، كان لرجال أعمال، وشخصيات وأكادميين، أدواراً في اتصالات على مر المراحل، لاستكشاف الآفاق في سياقات بائسة. فلا معنى للقول إن رجال الأعمال مبادرون من تلقاء أنفسهم!
مقتضى الرشد، والوطنية، والمنطق السديد، يحث على الاعتراف بأن لا "شريك" الآن. فإنكار الشراكة اسمعه المحتلون للعالم، عندما فازت حماس بالحكم في انتخابات 2006، ويتوجب علينا أن نستخدمه عندما فازت تل أبيب بدونالد ترامب، لكي نبدأ عملية إصلاح وتصويب حقيقي لأوضاعنا، والإقلاع عن الممارسات الكيدية حتى في التفصيلات، كأن تصبح السياسات مهتمة بخنق غزة واللعب بالبيضة والحجر في موضوعات الرعاية الصحية ورواتب الموظفين والخدمات والضرائب، ومثل هذه المسائل!