زيارة القدس تحت الاحتلال

التقاط.PNG
حجم الخط

 

أثيرت مسألة زيارة القدس الشريف تحت الاحتلال خلال جلسات مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس، بل أثيرت هذه المسألة منذ الإعلان عن تنظيم هذا المؤتمر وقبل انطلاق أعماله بأسابيع فى بعض الأوساط الدينية والإعلامية والثقافية والسياسية أيضًا محليًّا وإقليميًّا، وكان هناك ترقب لتضمين إعلان الأزهر لنصرة القدس توصية فى هذا الشأن، وتعالت بعض الأصوات بالفعل خلال جلسات المؤتمر تنادى بزيارة القدس تحت الاحتلال.

والمسألة من وجهة نظرى ليست دينية بقدر ما هى مسألة نظام وسياسة؛ فلا خلاف من الناحية الشرعية حول الحكم الأصلى العام لزيارة القدس والصلاة فى المسجد الأقصى، وهو الندب، فالأقصى بالنسبة لنا نحن المسلمين أولى القِبلتين، وثالث الحرمين، وأحد المساجد الثلاثة التى لا تُشد الرحالُ إلا إليها، يقول النبى - صلى الله عليه وسلم: »لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى«، وإنما الخلاف ومحل النزاع هو زيارة القدس تحت الاحتلال، والسبب فى ذلك عند جميع العلماء راجعٌ إلى اختلافهم فى تقدير المصلحة والمفسدة من هذه الزيارة، ولكلٍّ حججه ومبرراته وربما أدلته التى يسوقها لدعم موقفه المانع من الزيارة تحت الاحتلال أو المشجع لها.

وقد تناولت بعض الهيئات الإسلامية والمجامع الفقهية مسألة زيارة القدس تحت الاحتلال فى عدد من المؤتمرات، وخَلُصت إلى قرارات روَّج لها بعض الناس على أنها فتوى تجيز الزيارة تحت الاحتلال، ومن ذلك ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامى الدولى - المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامى - فى دورته الثانية والعشرين التى انعقدت بدولة الكويت خلال الفترة من 22 إلى 25 مارس 2015م. والحقيقة أنه لم يصدر عن مجمع الفقه الإسلامى فى هذه الدورة التى شرفت بالمشاركة فيها ما يُفهم منه أنه فتوى تطالب بزيارة القدس تحت الاحتلال أو تمنعها؛ فقد ترك قرار المجمع تقدير المصالح والمفاسد المترتبة على زيارة القدس تحت الاحتلال للمختصين من الساسة وصناع القرار فى بلاد العرب والمسلمين.

وقد انعقد فى العاصمة الأردنية عمان خلال الفترة من 28 إلى 30 أبريل 2014م مؤتمر بعنوان »الطريق إلى القدس«، ولم يصدر عنه أيضًا ما يمكن اعتباره فتوى تطالب شعوب عالمنا العربى بزيارة القدس تحت الاحتلال. ولعلى لا أذيع سرًّا إذا قلت إن بين علماء الأزهر الشريف تباينًا فى وجهات النظر حول هذه المسألة ناتجًا عن تقدير المصالح والمفاسد، لكن الموقف الرسمى للأزهر هو رفض زيارة القدس تحت الاحتلال؛ حيث لا مصلحة فى ذلك، بل إن زيارة القدس فى ظل احتلال غاشم يريد القضاء على كل المعالم الإسلامية والمسيحية والتاريخية والحضارية بالمدينة، تترتب عليها مفاسد جسيمة، ومضار عظيمة، ونتائج وخيمة. ولعل من المهم فى هذا السياق أن نذكِّر بمواقف رجال الأزهر الشوامخ وعلمائه الكبار الذين رفضوا زيارة القدس تحت الاحتلال؛ فقد رفض الشيخ عبد الحليم محمود مرافقة الرئيس السادات فى زيارته للقدس. وعلق الشيخ جاد الحق الزيارة على تَطَهُّرِ الأرض من دنس المغتصبين اليهود وعودتها إلى أهلها يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وأعلن أن مَن يذهب إلى القدس من المسلمين آثمٌ ما دامت محتلة. وعدَّ الدكتور نصر فريد واصل الزيارة تكريسًا للاحتلال واعترافًا بمشروعيته. وجدَّد الإمام الطيِّب موقف الأزهر الرافض للزيارة، مؤكدًا أن زيارة القدس تحت الاحتلال لا تحقق مصلحة للمسلمين، وقد استعرض مجمع البحوث الإسلامية فى اجتماعه الطارئ الذى انعقد فى 19 أبريل 2012م آراء علمائه فى هذا الشأن، ثم أصدر بيانًا جاء فيه أن »الأزهر الشريف يؤكد موقفه الرافض لزيارة القـدس والمســجد الأقصى وهما تحت الاحتلال الإسرائيلي«.

وعليه، فإن ما عليه الرأى بناء على مواقف علماء الأزهر وشيوخه الأجلاء - وكذا الموقف المشرِّف للكنيسة المصرية - هو أن زيارة القدس تحت الاحتلال متوقفة على تقدير المختصين ببلاد المسلمين للمصلحة فى ذلك، فتكون جائزة إذا ما غلبت المصلحة، وممنوعة إذا ما غلبت المفسدة، وهذا الرأى هو ما لم تخرج عنه الهيئات العلمية التى تناولت المسألة بالبحث المتجرد عن العاطفة، ومن وجهة نظرى الشخصية، فإن هناك جهتين هما الأقدر على تقدير المصلحة من الزيارة: الأولى: المقدسيون الذين يعيشون داخل مدينة القدس دون سواهم، وذلك بالنظر إلى وجودهم على الأرض، وقدرتهم على تحديد أثر الزيارة ومردودها عليهم سلبًا وإيجابًا. والجهة الثانية: قادة وحكومات الدول العربية والإسلامية، وذلك بالنظر إلى قدرتهم من خلال الأجهزة المعنية على تحديد الأبعاد السياسية للزيارة وتأثيرها على القضية برمتها فى المحافل الدولية، والخطورة المحتملة على مواطنيها فى حال دخولهم لزيارة القدس، والضمانات التى تضمن عدم وصول الموساد الإسرائيلى لهؤلاء الزائرين ومحاولته تجنيد بعضهم، والموقف الذى ينبغى اتخاذه إذا ما طالب الصهاينة بالسماح لشبابهم ونسائهم بدخول بلادنا معاملةً بالمثل وأثر ذلك على أمننا القومي، وغير ذلك من أمور يعرفها أهل الاختصاص.

ولما كانت المصلحة بهذا التصور لم تحقق بعدُ وما زالت محل خلاف إلى اليوم، كان من غير الملائم أن يستجيب مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس للدعوات الحماسية التى طالبت بزيارة القدس تحت الاحتلال؛ لأن تلك الاستجابة - لو حدثت - كانت ستصطدم بعقبات ومعوقات يصعب حصرها فى هذا المقام، والأزهر الشريف - كعادته دائمًا - لا يصدر أحكامًا أو توصيات إرضاء للأهواء أو دغدغة للمشاعر، ولكنه بصفته مؤسسة علمية فى الأساس ينطلق فى تناوله للقضايا من منطلقات علمية. ومن ثم، كان علينا التروى إلى أن تُدرس المسألة من جميع جوانبها دراسة وافية مستفيضة، وتتجلى المصلحة فى زيارة القدس تحت الاحتلال. ولعل الأولى بالمسلمين والعرب اليوم إن كانوا يريدون حقًّا دعم إخوانهم فى القدس أن يتحركوا بشكل عاجل لتحقيق مصالح المقدسيين وعموم الفلسطينيين التى لا خلاف حولها كالدعم السياسى والمالى والثقافى والمعنوي، وأن يعملوا جاهدين لاستعادة الوعى بقضية فلسطين وخاصة لدى النشء العربى والإسلامي، وأن تتوحد كلمة العرب والمسلمين وتتضافر جهودهم حيال تلك القضية المحورية، وعلى الفلسطينيين أنفسهم أن يدركوا جيدًا أنه قد آن الأوان لإنهاء فرقتهم وانقسامهم المضعف لمواقفهم والمشتت لجهودهم، وعلى الصهاينة أن يعلموا أنه مهما طال الزمن فستُشد الرحال إلى القدس لا لزيارتها تحت الاحتلال، وإنما لتحريرها بكل وسيلة ممكنة.

عن الاهرام