"الحل والمصالحة وآفاق الوضع"

مركز "مسارات" يُصدر تقديرًا استراتيجيًا لسيناريوهات الوضع بغزة

غزة.jpg
حجم الخط

أصدر المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية "مسارات" تقديرًا استراتيجيًا لسيناريوهات "الحل والمصالحة وآفاق الوضع في قطاع غزة".

وأعد التقدير المدير العام للمركز هاني المصري، وتحدث في مقدمته عن الوضع الراهن، ثم ملف تمكين الحكومة في قطاع غزة.

وبعدها أورد السيناريوهات المحتملة للمصالحة والوضع في القطاع، وتطرق لأفكار "مسيرة العودة"، والمخرج المناسب من الأزمة.

وحدد المصري ثلاثة سيناريوهات محتملة للحالة الفلسطينية هي: "المراوحة في نفس المكان وبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، أو انهيار غزة والسلطة وفرض خطة ترمب، أو إحباط صفقة الرئيس الأمريكي وإنجاز الوحدة وإنقاذ القطاع من الانهيار".

وبشأن "مبادرات وأفكار ومسيرة العودة" التي بدأت دعوات لها في قطاع غزة للتوجه بعشرات الآلاف نحو الحدود الشرقية مع "إسرائيل"، دعا المصري للتفكير مليًا بها، ودراسة الاحتمالات المختلفة بشأن تنفيذها.

وقال: "إذ لا ينفع الجزم من دون تفسير مقنع بأن إسرائيل لن تتخذ إجراءات مسبقة قد تصل إلى تحويل الشريط الحدودي إلى "حزام من نار" لمنع الاحتشاد فيه، أو أن ترتكب مجزرة كبيرة لوقف الزحف الشعبي، حتى لو كان سلميًا 100% ومنظمًا ومنضبطًا بشكل كبير جدًا".

وتساءل المصري: "هل يمكن تأمين هذا الزحف وبأعداد كبيرة وبلا ثمن فادح، ومن يضمن أنه سيحقق النتائج المرجوة منه إذا حدث، وأنه سيمنع المواجهة العسكرية؟"، مضيفًا "قد يكون مفيدًا التلويح بالزحف الشعبي الجماهيري، ولكن المفيد بشكل مؤكد استخدامه بشكل رمزي".

أما عن المخرج المناسب للحالة الراهنة، فيعتقد المصري أنه "يكون في البناء على اتفاق القاهرة الأخير لإنجاز المصالحة، وما يتضمنه من انتقال السلطة في قطاع غزة من حركة حماس، التي يرفض جزء كبير من الدول العربية والمجتمع الدولي التعامل معها، إلى سلطة معترف بها عربيًا ودوليًا، وفي وقت يبدي مختلف الأطراف استعدادًا لبذل الجهود لمنع انهيار القطاع".

التقدير الاستراتيجي كاملًا

سيناريوهات الحل والمصالحة وآفاق الوضع في قطاع غزة

إعداد: هاني المصري

لجنة السياسات في مركز مسارات

مقدمة

حصلت تطورات عدة تستدعي تسريع الجهود المبذولة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، ومنها: قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول القدس واللاجئين، ووقف جزء من المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية، والتهديد بقطعها، والشروع في استهداف الرئيس شخصيًا كما فعلت نيكي هيلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، ووضع إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، على قائمة الاٍرهاب لوزارة الخزانة الأميركية، وما تنذر به بقية مكونات الخطة التي تفكر الإدارة الأميركية بإمكانية طرحها خلال الأشهر القادمة، على الرغم من الموقف الفلسطيني الرافض للقرار الأميركي حول القدس، الذي يرى بأن واشنطن لم تعد وسيطًا ولا راعيًا لما تسمى "عملية سلام".

ويضاف إلى ما سبق، ما قامت إسرائيل وما تستعد للقيام به من سن قوانين ووضع مخططات وتنفيذ سياسات وإجراءات، بما يوضح بشكل قاطع انتقالها من سياسة إدارة الصراع ومحاولة فرض تسوية غير متوازنة إلى محاولة إنهائه عبر تمرير الحل الإسرائيلي الرامي إلى تصفية القضية والحقوق الفلسطينية.

كان من المفترض والطبيعي أن يؤدي ما سبق إلى تسريع الجهود المبذولة لإنجاز الوحدة، خصوصًا بعد وقوف مختلف الأطراف الفلسطينية ضد "صفعة القرن"، وأن يدفع باتجاه تجاوز ما اتفق عليه في القاهرة بتاريخ 12/10/2017 من اتفاق جزئي لإحياء المصالحة تمحور حول تمكين الحكومة، لصالح الاتفاق على رزمة شاملة تتضمن: البرنامج الوطني، والاتفاق على أسس الشراكة الكاملة، وتشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني حقيقية، وتفعيل الإطار القيادي للمنظمة، او استكمال أعمال اللجنة التحضيرية وتتويجها بعقد مجلس وطني توحيدي، وإجراء الانتخابات العامة. رزمة شاملة تنفذ بالتوازي وليس من الضروري في نفس الوقت، وتبدأ بالاتفاق على كيفية مواجهة وإحباط المخاطر المتزايدة، خصوصًا ما يسمى "الخطة الأميركية" للحل. غير أن شيئًا من هذا لم يحدث، واستمرت "عملية المصالحة" عملية من دون مصالحة حقيقية، وما زالت عالقة بين التفسيرات المتناقضة لما اتفق على تسميته "تمكين الحكومة".

"تمكين الحكومة"

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2017، لا يزال اختلاف التفسيرات بشأن "تمكين الحكومة" سيد الموقف؛ إذ يزعم طرف بأنّ التمكين المتفق عليه قد تحقق، غير أن الحكومة لم تقم بما التزمت به، خصوصًا بما يتعلق بصرف سلف للموظفين الممارسين، بل خرقت الاتفاق بمسائل عدة، أبرزها قرار دعوة موظفي السلطة ما قبل 2007 للعودة إلى وظائفهم خلافًا لما اتفق عليه بخصوص بقاء الوضع على حاله إلى حين انتهاء اللجنة الإدارية القانونية من عملها في بداية شهر شباط الجاري، وسط أنباء أنها أنهت أعمالها وبانتظار المصادقة عليها والشروع في التطبيق، إلى جانب الاتفاق أيضًا على أن يستعين الوزير بطاقم يساعده إلى جانب عدد قليل من الموظفين إلى حين انتهاء اللجنة الإدارية.

والجدير بالذكر أن خلافًا نشب حول تشكيل اللجنة المكلفة بملف الموظفين، إذ طالبت "حماس" بضم ثلاثة خبراء من الموظفين العاملين في غزة إليها حتى تكون قراراتها منصفة ومهنية، ولم تتم الاستجابة لذلك، ما يعني أن نتائج عملها يمكن الطعن بها.

في المقابل، يزعم الطرف الآخر أن التمكين لم يتحقق إلا بنسبة صغيرة، وأن اللجنة الإدارية التي تعمل بالخفاء لا تزال هي الحكومة الفعلية للقطاع.

يأتي ما سبق في ظل استمرار معظم الإجراءات العقابية، وفرض المزيد منها من خلال إعادة الضرائب التي كان الرئيس محمود عباس قد رفعها سابقًا عن القطاع، وعبر زج آلاف جدد من الموظفين إلى التقاعد المبكر، مع أن الوضع في القطاع وفق كل المعطيات والمؤشرات والتوقعات المحلية والإسرائيلية والدولية مرشح للانهيار والانفجار خلال الأشهر القادمة إذا لم يكن في الأيام والأسابيع القادمة.

بالترافق مع ذلك، أظهرت "حماس" عبر العديد من المظاهر أنها لا تزال السلطة الحاكمة في القطاع، مثل تنفيذ الإعدام بأحد العملاء من دون مصادقة الرئيس، ومنع النساء من حضور مباراة رياضية وغيرها، رغم عدم التقليل من أهمية حل اللجنة الإدارية وتسليم المعابر، وجمع الرسوم وغيرها من بعض أشكال الجباية، وتمكين أعداد أكبر من المتفق عليه من موظفي ما قبل 2007 من العودة إلى أعمالهم، لا سيما في وزارات مثل التربية والتعليم والصحة، بينما لم تصل الإجراءات إلى الأمن والقضاء ومعظم أشكال الجباية.

أما الراعي المصري، فيكاد أن يرفع يده من دون تحميل المسؤولية لأحد الطرفين بعد أن نجح بتمديد فترة "التمكين"، وسط معلومات أنه يخطط لاستئناف جهوده قريبًا من دون تحديد موعد بدعوة وفدين من "فتح" و"حماس" إلى لقاء بالقاهرة.

السيناريوهات المُحتملة

السيناريو: الأول المراوحة في نفس المكان

يقوم هذا السيناريو على بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، أقل قليلًا أو أكثر قليلًا، من دون تطورات وتغيرات جوهرية.

وتدفع عوامل عدة بهذا السيناريو، منها الخشية من انهيار الأوضاع في قطاع غزة وتداعياته وعواقبه على الوضع الفلسطيني ككل، وعلى الأمن والاستقرار، خصوصًا أن هذا الانهيار يمكن أن يزيد من احتمالية وقوع مواجهة عسكرية، من خلال زيادة دوافع "حماس" وبقية الفصائل إلى المواجهة. ورغم أن المواجهة العسكرية غير مرغوبة ولا مفضلة من الطرفين، على الأقل في هذه الظروف غير المواتية، إلا أن التوتر القائم والحصار الإسرائيلي والاعتداءات المتواصلة قد تنزلق بالوضع إلى المواجهة العسكرية.

ويزيد من هذا الاحتمال أنّ ثمن انفجار القطاع ضد السلطة القائمة هناك قد يكون أكبر من ثمن الحرب مع الاحتلال، التي تبقى خيارًا له فوائده - رغم ثمنه الباهظ - مثل إعادة خلط الأوراق، والدفع باتجاه الوحدة ضد إسرائيل، ودعم الصمود والمقاومة.

ويعزز من احتمالية سيناريو المراوحة في نفس المكان أن العنوان الرئيسي للسياسة الفلسطينية الرسمية لا يزال انتظار التطورات المفتوحة على احتمالات عدة بشأن الخطة الأميركية ومواقف الأطراف الإقليمية والدولية منها، ما يلقي بظلاله على الموقف من المصالحة ذاتها.

ومن هذه الاحتمالات أن العملية السياسية لا يمكن أن تتقدم من دون الطرف الفلسطيني، ما يعني الحاجة إلى تأهيله، أو قد يتم "طرح الخطة الأميركية للتنفيذ وليس للتفاوض" من دون موافقة الطرف الفلسطيني، لأنه "طرف غير مقرر والخطة للإقليم ككل" كما أخبر جيسون غرينبلات سفراء دول أوروبية مؤخرًا أثناء لقائهم به، أو قد يتم الانتظار إلى حين "إقناع" الرئيس عباس بتليين موقفه، والموافقة على استئناف المفاوضات، والتعاطي مع الخطة الأميركية لأنها اللعبة الوحيدة بالمدينة، أو انتظار نضج بديل فلسطيني أو عربي أو كليهما عنه وعن القيادة الحالية. مع أن كلا الأمرين صعب، لأن الشعب الفلسطيني لن يرضى بديلًا فلسطينيًا أو عربيًا للتغطية على الحل الأميركي الإسرائيلي.

يفترض تحقق هذا السيناريو تعثر تمرير الخطة الأميركية حتى لو طرحت، ولكن من دون أن يصل الأمر إلى استبعاد الدور الأميركي (يمكن كسر احتكاره ولكن من المتعذر استبعاده) لجهود دفع العملية السياسية بانتظار توفر شروط تمرير الخطة وفق الاحتمالات السابقة، أو إيجاد صيغة بديلة عنها. إذ أقصى ما يمكن أن تلعب أوروبا وروسيا والصين والأمم المتحدة دورًا في الوقت الضائع إلى حين إيجاد صيغة تسمح باستئناف الدور الأميركي، الذي أكدت كل الأطراف الدولية وبعض الدول العربية أن لا بديل عنه رغم معارضتها للقرار الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والشروع في نقل السفارة إليها.

وضمن هذا السيناريو سيتواصل دعم حل الدولتين، وخصوصًا من السلطة الفلسطينية والأردن ومعظم العرب والعالم، إلى جانب مواصلة دعم السلطة وتعويضها عن قطع أو تقليل المساعدات الأميركية، وعن تخفيض المساعدات للأونروا، لضمان بقائها ضمن مظلة أوسلو وعدم مضيها نحو اعتماد مسار جديد.

وقد تميل الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية خلافًا لأوساط سياسية لهذا السيناريو، لخشيتها من عواقب انفجار القطاع، فضلًا عن انهيار السلطة أو تغيير وظيفتها، وخصوصًا إذا أوقفت السلطة التنسيق الأمني بشكل فعلي، ووفرت مقومات الصمود، وأصحبت مجاورة للمقاومة من خلال دعم المقاومة الشعبية في وجه الاحتلال.

في الواقع، ثمة مصلحة لأطراف عدة، إسرائيلية وعربية ودولية، باستمرار سيناريو مراوحة الفلسطينيين في المكان ذاته، سواء من حيث عدم تبني خيارات سياسية دراماتيكية، أو منع مضي الرئيس و"فتح" في طريق الشراكة الكاملة مع حركة حماس ضمن نظام سياسي موحد.

إن مواجهة مخاطر تصفية القضية الفلسطينية في حالة الإصرار على طرح الخطة الأميركية لا تعزز من فرص سيناريو المراوحة في المكان ذاته. فهذه الخطة، وبصرف النظر عن الاحتمالات المتعلقة بكيفية تسويقها، ليس قدرًا لا رادّ له، بل هي محفوفة بالمخاطر، وغير مضمونة النجاح، وبحاجة إلى وقت حتى تنجح إذا قدر لها النجاح، بل الأكثر احتمالًا أن الإصرار عليها قد يؤدي إلى انقلابها على مخططيها من خلال دفع احتمالات المواجهة مع الاحتلال من الفلسطينيين جميعًا وفتح الباب أكثر لانهيار ولا نقول "حل" السلطة.

كما سيدفع الإصرار على الخطة إلى تعزيز فرص تطبيق الأفكار المتداولة فلسطينيًا بقوة متزايدة حول تجسيد دولة فلسطين سياسيًا وقانونيًا، والسعي للحصول على المزيد من اعتراف الدول بها، وتفعيل الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي، والعضوية الفلسطينية في المحكمة الجنائية الدولية، والشروع فعلًا في التحلل من التزامات اتفاق أوسلو، وما يقتضيه ذلك من تغيير طبيعة السلطة والتزاماتها ووظائفها، ونقل الوظائف السياسية إلى المنظمة بعد إعادة بنائها.

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو لا يغلق الباب تمامًا أمام حل الدولتين، لكنه لا يملك القدرة على فتح الطريق له ولا على منع المزيد من التدهور جراء استمرار الزحف والضم الاستيطاني، واستكمال تهويد القدس وأسرلتها، والتقدم أكثر على طريق ضم الكتل الاستيطانية والأراضي المصنفة (ج)، وإبقاء قطاع غزة "رأسه طافيًا حتى لا يغرق" ولا ينجو وفق ما صرح به وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان.

وفي إطار هذا السيناريو من الصعب، وليس من المستحيل، تحقيق الشراكة الكاملة، لأن طرفي الانقسام غير مستعدَيْن للشراكة، وأكبر دليل على ذلك كيفية التعامل مع تطبيق "اتفاق القاهرة الجديد"، إذ تجري كل الجهود لصالح تمكين الحكومة، التي هي حكومة الرئيس وتلتزم ببرنامجه وتعليماته، في حين هناك حاجة ماسة لحكومة وحدة وطنية أو وفاق حقيقي خلال الفترة الانتقالية، لكي تقوم بتوحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية على أسس وطنية ومهنية، بعيدًا عن الهيمنة والتفرد والإقصاء واحتكار الوطنية أو الدين أو الحقيقة، تمهيدًا للاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات.

السيناريو الثاني: انهيار القطاع والسلطة وفرض خطة ترامب

يتحقق هذا السيناريو من خلال استمرار تردي الوضع في قطاع غزة وانزلاقه نحو الانهيار والانفجار لتسهيل إعادة ترتيبه لكي يكون محور "الكيان الفلسطيني"، وفتح الطريق لحل تصفوي للقضية عن طريق إقامة "الدويلة" الفلسطينية في غزة مع أو من دون معازل الضفة، ومع أو من دون توسيعها على حساب سيناء لتضم قسمًا من اللاجئين.

كما أن احتمال انهيار مؤسسات السلطة قد يكون واردًا في هذا السيناريو، نتيجة لاحتدام المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية على خلفية محاولة فرض خطة ترامب، وتداعياتها السياسية والاقتصادية والأمنية والميدانية.

يفترض هذا السيناريو أن انهيار السلطة قد يصبح ممرًا لتسهيل تجاوز الدور الفلسطيني لصالح أدوار عربية وإسرائيلية، وتطبيق الخطط الموضوعة، أو خليط منها، بحيث تتضمن التهجير والضم والحل على حساب الأردن ومصر، وحل الإمارات السبع، والدولة المخترعة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو التي أشار اليها في خطابه في مقر "تشاتام هاوس Chatham House" البريطاني العام الماضي في ذكرى وعد بلفور، وذلك بغرض تكريس السلطة بوصفها سلطة حكم ذاتي يمكن أن تسمى "دولة" دون أن تملك مقومات الدول، وتكون منزوعة السلاح وبلا سيادة ولا حدود ولا سيطرة حقيقية.

سيكون هذا السيناريو محتملًا مع أنه مستبعد إن لم يكن مستحيلًا إذا لم يتراجع ترامب عن خطته، ومضى في فرضها حتى من دون موافقة القيادة الفلسطينية، وما لم يكن الموقف الفلسطيني والعربي والدولي، خصوصًا الأوروبي، كافيًا لردعه.

ويشجع هذا السيناريو أن بعض الدول العربية قد تؤيده لأنها تعاني من نقص في الشرعية، وتتوهم تعويضها من الدعم الأميركي، وكونها تخشى من أن يستخدم أي تأخير على الجبهة الفلسطينية، أميركيًا وإسرائيليًا، كذريعة لعدم التقدم على طريق بناء الحلف الأميركي العربي الإسرائيلي الموجه ضد إيران، تحت تأثير وهم عربي قاتل بأن حكام واشنطن وتل أبيب يمكن أن يكونوا تحت أمرهم، وهم مستعدون لشن الحرب ضد إيران إذا أزيلت القضية الفلسطينية عن الطاولة. وهذا زعم يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وليس إلى تلبية الحقوق الفلسطينية، ولن يقود إلى الحرب المنتظرة بالضرورة، لأنها لن تقع إلا إذا كانت مصلحة أميركية إسرائيلية مؤكدة، وإذا كانت نتيجتها مضمونة أو شبه مضمونة، عدا عن أن ممولها ووقودها سيكون العرب لا غيرهم.

في سياق هذا السيناريو قد تتحرك المصالحة إلى الأمام في ضوء الحاجة للتوحد في مواجهة المخاطر، ولكنها إذا لم تحدث سريعًا، فعلى الأرجح ستنجرف مع انهيار السلطة وانفجار القطاع اللذين سيكون لهما تداعيات وارتدادات كثيرة.

السيناريو الثالث: إحباط صفقة ترامب وإنجاز الوحدة وإنقاذ القطاع من الانهيار

هذا السيناريو محتمل الحدوث إذا توفرت متطلباته، وخصوصًا إنجاز الوحدة الوطنية على أساس برنامج سياسي ونضالي، قادر على تحقيق حالة نهوض وطني توجه رسالة واضحة بأن ثمن محاولة فرض خطة ترامب ودعم مخططات تعميق الاحتلال والاستيطان؛ سيكون عند أميركا وإسرائيل أعلى من ثمن التراجع عنها. وهذا الهدف ممكن تحقيقه في ظل تزايد المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية وعدم وجود طرف فلسطيني أساسي مستعد للانخراط في الحلول المطروحة.

ويمكن أن يتوفر لهذا السيناريو دعم عربي وإقليمي، وحتى من أطراف دولية وازنة، إذا قام على أساس برنامج وطني واقعي قابل للتحقيق ومقبول دوليًا، والتركيز على اعتماد المقاومة الشعبية، وعدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة إلا في سبيل الدفاع عن النفس للتصدي لعدوان أو اجتياح إسرائيلي للقطاع.

ما يمنع إنجاز الوحدة الوطنية الآن الأطراف الفلسطينية أكثر من الأطراف الخارجية. فسابقًا كانت الخشية الفلسطينية من العقوبات والمقاطعة الإسرائيلية والأميركية، وحتى الأوروبية والدولية للسلطة، ومن سحب الاعتراف بالمنظمة؛ هي التي تمنع القيادة الفلسطينية من المضي في الوحدة إذا لم توافق "حماس" على شروط اللجنة الرباعية. أما الآن، فإدارة ترامب بدأت بمسيرة إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وتخفيض المساعدات، وتقترب من سحب الاعتراف بالرئيس، ومن البحث عن خليفة "دمية" له، تمامًا مثلما حصل مع الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في خطاب له في حزيران 2002 أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى "قيادة جديدة ومختلفة" تحارب "الاٍرهاب" وتلتزم بالسلام الأميركي الصهيوني".

ما العمل؟

هل نبقى بانتظار تحقق السيناريوهين السيئ والأسوأ (استمرار الوضع على ما هو عليه، والانهيار والانفجار وفرض الحل الأميركي الإسرائيلي التصفوي)، أم يجب عمل كل ما يمكن عمله لإحباطهما وفتح الطريق لسيناريو الإنقاذ الوطني؟

يقتضي الواجبُ الوطني الذي يستجيب لمصالح الشعب التحركَ الجاد لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة من دون تنازلات جديدة ولا مغامرات، وبلا إضاعة الفرص المتاحة.

من الخطورة بمكان تصور إمكانية معالجة الانقسام بالمزيد من الانقسام من خلال تجريب ما سبق تجريبه، مثل العودة إلى تشكيل "اللجنة الإدارية"، ولكن ضمن تشكيلة جديدة من دون مشاركة فصائلية ولكن بمباركتها.

هذه الأفكار التي تنطلق من نوايا حسنة تستهدف منع القطاع من الانهيار، أو أنها مجرد مناورات لتحريك الوضع لقطع الطريق على الانهيار، غير أنها في معظمها إن لم يكن كلها لا تحل أزمات القطاع، وستزيد من المخاطر، وتسرع الخطى نحو تحول الانقسام إلى انفصال، ولو تحت مسميات فدرالية، أو غيرها، أو الاستفادة من الوضع الخاص في القطاع لإقامة دويلة فلسطينية أملًا بأن تتمدد إلى الضفة عندما يحين الظرف المناسب.

تكمن معضلة هذه الأفكار والمبادرات في تجاهلها للأسباب الحقيقية لما يعانيه القطاع، وهي: الحصار الإسرائيلي المحكم، والتهديد الدائم بالعدوان الإسرائيلي، وإغلاق معبر رفح معظم أيام السنة، والانقسام الفلسطيني الذي وصل إلى حد فرض إجراءات عقابية ضد القطاع.

وإذا فككنا هذه الأسباب، نجد أن إسرائيل فرضت الحصار، وتريد الاستمرار فيه، وتشن العدوان تلو الآخر؛ لكسر إرادة شعبنا في القطاع، وكي وعيه، وكسر إرادته على الصمود والمقاومة، ودفع "حماس" إلى الاعتراف بإسرائيل، ونزع سلاحها والكف عن تطويره، ووقف حفر وبناء الأنفاق، وتسليم الجثث والأسرى الإسرائيليين، إضافة إلى استمرار الانقسام وتعميقه لما يقدمه لها من مزايا لا تقدر بثمن.

أما "حماس"، فقد حاولت عبر توني بلير وقطر وتركيا وغيرهم التوصل إلى حل يتضمن إنهاء أو تخفيف الحصار بشكل ملموس مقابل هدنة طويلة الأمد، ولكن إسرائيل رفضت ذلك لأنها تريد استمرار معادلة "هدوء مقابل هدوء"، وإذا أرادت "حماس" أكثر عليها أن تقدم أكثر.

ومن جانبها، تريد مصر الحفاظ على أمنها القومي عبر إيقاف وجع الرأس الأمني الذي يسببه قطاع غزة، وبخاصة لجهة العلاقة بين ما يجري فيه وفي سيناء، إضافة إلى منع انهيار القطاع وانفجاره، وتوحيد الفلسطينيين تمهيدًا لإحياء المسيرة السلمية الرامية إلى التوصل إلى ما يسمى "حل الدولتين".

تواجه مساعي مصر عقبات كبيرة، مثل توسع الانقسام أفقيًا وعموديًا، وصعوبة إحياء المسيرة السياسية في ظل إدارة ترامب التي تهدف إلى فرض حل يستجيب للشروط والإملاءات الإسرائيلية. وهو سيكون على حساب مصر، إما من خلال إقامة "دويلة" فلسطينية في القطاع عبر أو من دون اقتطاع أراضٍ مصرية من سيناء وضمها للقطاع، أو الحؤول دون قيام دولة فلسطينية طالما اعتبرت مصر قيامها ضروري لحماية أمنها القومي، أو من خلال رمي القطاع في حضن مصر ودفن فكرة الدولة الفلسطينية. وتصطدم المساعي المصرية بخلافات مصرية مع الرئيس عباس حول كيفية ترتيب البيت الفتحاوي، والفلسطيني بشكل عام.

الآن، بات تجاوز عقبة الانقسام بيد الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى، لا سيما بعد القرار الأميركي بخصوص القدس، ولكن من دون تقليل تأثير العوامل الخارجية، إلا أن إنجاز الوحدة لا يزال مستعصيًا، لا سيما في ظل إعطاء الرئيس و"فتح" الأولوية لاستعادة القطاع من دون الاعتراف بالشراكة مع "حماس" وغيرها من الفصائل. أما "حماس"، فتعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها الفعلية على القطاع ومراكمة مكاسب أخرى في السلطة والمنظمة. غير أن الحل واضح ويتمثل باستعادة القطاع تحت مظلة السلطة التي يجب إعادة النظر في وظائفها والتزاماتها مقابل شراكة كاملة في السلطة والمنظمة.

مبادرات وأفكار ومسيرة العودة

هناك مبادئ وأفكار ومبادرات أخرى فردية غير متبلورة تتضمن إعطاء الأولوية لرفع الحصار بأي ثمن، ولو على حساب قضايا وحقوق أخرى، عن طريق المقايضة بين الضفة والقطاع، أو مع سلاح المقاومة والأنفاق ... إلخ.

وهناك مبادرة أخرى تنطلق من تنظيم انفجار شعبي مضبوط ومسيطر عليه باتجاه الحدود، وبالتحديد باتجاه إسرائيل، تطبيقًا لحق العودة، ومحاولة لكسر الحصار ومنع الانفجار وتوجيهه ضد الاحتلال. وهذه الفكرة أشبه بتكرار للمبادرة التي نفذت على الحدود السورية واللبنانية في 15/5/2011، من خلال اقتحام حشود جماهيرية للحدود، ما أدى إلى إرسال رسالة قوية للعالم حول حق عودة اللاجئين، وسقوط عشرات الشهداء والجرحى.

إن مثل هذه المبادرات يجب التفكير بها مليًا، ودراسة الاحتمالات المختلفة بشأن تنفيذها، إذ لا ينفع الجزم من دون تفسير مقنع بأن إسرائيل لن تتخذ إجراءات مسبقة قد تصل إلى تحويل الشريط الحدودي إلى "حزام من نار" لمنع الاحتشاد فيه، أو أن ترتكب مجزرة كبيرة لوقف الزحف الشعبي، حتى لو كان سلميًا 100% ومنظمًا ومنضبطًا بشكل كبير جدًا، لأن ما يمكن أن يردع إسرائيل عن ارتكاب المجزرة:

أولًا: روادع داخلية؛ سياسية وأخلاقية، وهي غير متوفرة بالمرة في ظل ما تشهده إسرائيل من تحولات، ومن تطرف وعنصرية وعدوانية وتعطش للعنف والدماء، ولعل الوحشية التي تعاملت بها مع المتظاهرين، خصوصًا على حدود القطاع، والإعدامات الميدانية في الضفة دليل على ذلك.

ثانيًا: رادع عربي أو دولي لأي إجراء إسرائيلي عنيف ودموي بذريعة حماية "سيادة الدولة" والمستوطنين في المستوطنات المحاذية للقطاع، وهو غير متوفر، لا سيما أن الوضع العربي والدولي الحالي أضعف من أن يردع إسرائيل في ظل الحماية الأميركية لها، واندفاع عدد من الدول العربية للتحالف معها ضد إيران.

ثالثًا: رادع فلسطيني لا يبدو أنه كافٍ في ظل الانقسام والتوهان الفلسطيني الراهن رغم التحسن النسبي بعد قرار ترامب.

كما من غير المؤكد أن تشارك أعداد كبيرة من المتظاهرين في الزحف الشعبي عبر الحدود في ظل الانقسام والفجوة الكبيرة بين الشعب والقيادة والفصائل والترهل والفساد، وبعد عدم التجديد في المؤسسات والأشخاص، ولأن اليأس المخيِّم على الأجواء الفلسطينية يُحد من الحركة الجماهيرية الواسعة. وهذا لا يعني الامتناع عن هذه الفكرة، ولكن يجب أن تكون التوقعات واقعية، مع الحرص على أن يكون الزحف الشعبي سلميًا، حتى لو اقتضى الأمر على الحدود من دون اجتيازها إلا بشكل منظم ومحسوب جيدًا.

إن مثل هذه الأعمال العظيمة في التاريخ بشكل عام، وفي التاريخ الفلسطيني بشكل خاص، عادة ما يحركها الأمل بالانتصار غير الموجود حتى الآن. فأقصى ما يأمل الشعب الفلسطيني في تحقيقه خلال هذه المرحلة توفير مقومات الوحدة والصمود والمقاومة، وأسباب استمرار التواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين، وإبقاء القضية حية، وتقليل الأضرار والخسائر، وإحباط المخططات الإسرائيلية، ومنع تصفية القضية الفلسطينية.

قد يكون ممكنًا التفكير من جديد بعمل جماهيري متواصل وبأعداد متزايدة بالقرب من الحدود، ويحافظ على درجة منخفضة من الاشتباك الجماهيري المحدود وغير المتواصل، ليكون بمنزلة تمرين وبروفة للزحف الجماهيري الذي يمكن أن يحدث في ظروف أخرى مستقبلية.

قد يقول قائل إن الزحف الشعبي رغم الخسائر الفادحة ضد إسرائيل أفضل من الانفجار والانهيار الداخلي الذي سيتسبب بخسائر أكبر، ومن خوض مواجهة عسكرية فلسطينية إسرائيلية في وقت غير مناسب.

إن الرد على ما سبق يكون من خلال طرح سؤال: هل يمكن تأمين هذا الزحف وبأعداد كبيرة وبلا ثمن فادح، ومن يضمن أنه سيحقق النتائج المرجوة منه إذا حدث، وأنه سيمنع المواجهة العسكرية؟

قد يكون مفيدًا التلويح بالزحف الشعبي الجماهيري، ولكن المفيد بشكل مؤكد استخدامه بشكل رمزي.

إذا كان بمقدور أحد تحريك عشرات أو مئات الآلاف للزحف على الحدود لمنع انفجار قطاع غزة داخليًا وتوجيهه ضد إسرائيل، وتجسيدًا لحق العودة، وعلى خلفية كسر الحصار، فلماذا لا يحركهم للضغط على طرفي الانقسام لفرض إرادة الشعب بالوحدة عليهما؟ ما يفتح إمكانية خوض مقاومة مثمرة ومتصاعدة ضد الاحتلال، وهو ، أي الوحدة، هدف قابل للتحقيق إذا توفر الضغط الكافي والمتراكم والمتعاظم.

المخرج المناسب

إن المخرج المناسب للوضع الفلسطيني يكون في البناء على اتفاق القاهرة الأخير لإنجاز المصالحة، وما يتضمنه من انتقال السلطة في قطاع غزة من حركة حماس، التي يرفض جزء كبير من الدول العربية والمجتمع الدولي التعامل معها، إلى سلطة معترف بها عربيًا ودوليًا، وفي وقت يبدي مختلف الأطراف استعدادًا لبذل الجهود لمنع انهيار القطاع.

الجدير بالملاحظة هنا أن ما حدث من خطوات على طريق المصالحة منذ توقيع اتفاق القاهرة الأخير لا يبشر بالخير، فهناك ما يشير إلى أنه مرشح للفشل أكثر من النجاح، مثله مثل الاتفاقات السابقة، ما يستدعي مزيدًا من الجهد والمبادرات والضغوط للبناء عليه من خلال السعي لتشكيل جبهة إنقاذ وطني يشارك فيها كل الحريصين على الوحدة الوطنية وإنقاذ القضية وإنهاء الانقسام، بما يؤدي إلى تراكم الضغط السياسي والجماهيري على طرفي الانقسام، وبما يفتح الطريق لبدء حوار وطني شامل من جديد، يتوقف أمام التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، خاصة من صفقة ترامب، وكيفية توظيف الفرص المتاحة؟

ويضع هذا الحوار على جدول أعماله الاتفاق على الرزمة الشاملة، التي تشمل مختلف القضايا، وفي مقدمتها خطة إحباط المخطط الأميركي الإسرائيلي، إذ يعرف كل طرف فيها منذ البداية ما عليه أن يقدم وعلى ماذا سيحصل، الأمر الذي سيشجعه لإنجاح التجربة الجديدة من المصالحة. وهذا هو الطريق الأقصر لمعالجة مشكلات غزة وإنهاء معاناة أهلها المتفاقمة.

وهنا يمكن تذليل عقبة الاتفاق على البرنامج الوطني من خلال التمييز بين البرنامج الوطني الذي يجب أن يتم تبنيه من قبل منظمة التحرير بعد إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وبين البرنامج السياسي الذي من المفترض أن تتبناه السلطة/الدولة، الذي لا بد أن يتحلى بالمرونة والواقعية ليقبل دوليًا دون الالتزام حتمًا بشروط اللجنة الرباعية المجحفة التي تجاوزتها الأحداث. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يقبل البرنامج السياسي الموافقة على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي لا تعني الاعتراف بإسرائيل.

كما يمكن أن يركز برنامج السلطة/الدولة على تطبيق "مبدأ التبادلية" فيما يخص العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، سواء بالنسبة للاتفاقات السابقة أو اللاحقة، ويمكن تكريس الهدنة ومدها إلى جميع الأراضي المحتلة شرط التزام الاحتلال بوقف العدوان بكل أشكاله.

ويمكن أن ترفض المنظمة أي انخراط بأي عملية سياسية لا تكون مرجعيتها ملزمة وواضحة مسبقًا ومتفقًا عليها، تستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

ويمكن وبالضرورة أن تستهدف الوحدة أولًا توفير متطلبات تنفيذ استراتيجية سياسية ونضالية تركز على مواجهة الخطر الزاحف من الاستعمار الاستيطاني لوقفه، وما يقتضيه ذلك من مقاومة شعبية متصاعدة، وصولًا إلى انتفاضة شاملة لا تنتهي إلّا بدحر الاحتلال والعودة والحريّة والاستقلال.