تقول دعاية الاحتلال الصهيوني إن الفلسطينيين يعلّمون أبناءهم الكراهية، بل إنهم يكرهون أبناءهم حين يسمحون لهم بمقاومة الاحتلال واحتمال فقدان الحياة أمام الجنود المدججين. ويعبث دعائيو الاحتلال باللغة، فيصفون حتى أعمال المقاومة البسيطة، مثل الاحتجاج وإلقاء الحجارة، بأنها "عنف" و"إرهاب"، وهو ما يشتريه كثيرون في الغرب ممن لا يرون الصورة كاملة. وقد ظهر مثل ذلك أخيراً في قصة الفتاة عهد التميمي، التي اعتبر الاحتلال صفعها جندي احتلال في فناء بيتها عملاً خطيراً واعتداء على الدولة لا يمكن التسامح معه. وعرض الاحتلال قصة عهد كمثال على سرده القائل بأن الفلسطينيين يستغلون أبناءهم ويسيئون إليهم بتعريضهم لتبعات المواجهة مع جنود الاحتلال المدججين لأغراض دعائية.
كانت غولدا مئير، رئيسة وزراء اسرائيل السابقة، قد عبرت عن هذه الفلسفة المشوهة حين قالت: "نستطيع أن نسامح العرب على قتلهم أولادنا. لكننا لا نستطيع مسامحتهم على قتل أولادهم. سوف يكون لدينا سلام مع العرب فقط عندما يحبون أولادهم أكثر مما يكرهوننا". وافتراض مئير هو أن على العربي (الفلسطيني في هذه الحالة) أن يحب أولاده بإقناعهم بالاستسلام للمحتل، وملء قلوبهم بالخوف منه، من أجل الحفاظ على حياتهم. ويعني ذلك تربية الفلسطيني على القبول بتجريده من بيته وممتلكاته وكرامته وحريته وتاريخه وإنسانيته، والتعايش مع فكرة إلغائه طوعاً.
وتعرض مئير نفسها في ثوب المشفق على الفلسطينيين الذي يحب لهم الحياة -"الحياة" التي تحدد لهم مواصفاتها. ولم تذكر مئير أن المغامرين الذين جلبهم مشروعها لاستعمار وطن الآخرين انطوى أيضاً على تعرض "أولادها" الغزاة للقتل، كما حدث ويحدث، ولم تتحدث عن كمِّ الكراهية الذي لا بد أن يحمله أي مستعمِرين!
لا يستطيع الآباء والأمهات الفلسطينيون أن ينذروا أبناءهم لحياة شروطها الذل والخضوع للآخر الوحشي. وليست هناك طبيعية ولا أخلاقية في تعليم الأبناء التعامل مع الغازي كإله مخيف، ووضع الرقبة تحت سكينه. وليس هناك أي منطق في الزعم بأن الآباء والأمهات الفلسطينيين لا يحرصون على حياة أبنائهم. لكن الفلسطيني لا يحب أن يرى أبناءه مهانين وراكعين، ولا يستطيع أن يدفعهم إلى القبول بذلك. إن واجبه هو أن يعلمهم كراهية الاحتلال كفكرة وأفراد. وهذه الكراهية ليست مشروعة فحسب، وإنما هي ضرورية من أجل احترام الذات، وصيانة الوجود الفردي والجمعي. لو لم يكره الفلسطينيون الغزاة ويقاوموهم ويهزموا الخوف من آلة القتل الوحشية، لكانت هويتهم قد مُحيت الآن، ولكانوا قد فقدوا شخصيتهم البشرية وتحولوا إلى شيء ماهيات مائعة و"أدنى من بشر" كما يعاملهم الاحتلال، مثل أفارقة جوزيف كونراد في "قلب الظُلمة"، الذين عبدوا المستعِمر الأبيض وتصوروه إلهاً وصلوا له –حرفياً- بسبب سطوته ووحشيته، بينما علَّق رؤوسهم على أعمدة سياجه.
كراهية الفلسطينيين للاحتلال والمحتلين هي كراهية من شدة الحب –حبهم لحريتهم وإنسانيتهم وتاريخهم وكل شيء أثير –ومهدد- لديهم. إنهم لا يمكن أن يحبوا أحداً أو شيئاً يهدد هذه الأشياء، والخضوع ليس خياراً لأنه يعني انتحارهم النفسي والفيزيائي. وعندما يسمح الآباء الفلسطينيون لأبنائهم بالخروج إلى الشارع والوقوف أمام الدبابات، فإنهم يحبونهم جداً إلى حدّ عدم القبول لهم بحياة جوهرها ميت، وشروطها الخوف والجُبن.
دائماً يلخص علاقة كل صاحب وطن بالمحتل ضنك المشهد الختامي البليغ لرواية ي. م. فورستر "معبر إلى الهند". وفي المشهد، يتجول عزيز، الهندي، مع صديقه الإنجليزي، فيلدنغ، المتعاطف مع الهنود. ويقول عزيز:
"لقد سئمنا من الإنجليز. هذا أكيد. اخرجوا من هنا يا جماعة، وبسرعة. ربما نكره بعضنا بعضا لكننا نكرهكم أكثر. إذا لم أخرِجكُم أنا، أحمد سيفعل، كريم سيفعل، حتى لو بعد خمسين-خمسمائة سنة، سوف نتخلص منكم، نعم، سوف نلقي بكل إنجليزي بغيض في البحر. عندئذ... سوف نكون أنا وأنت أصدقاء".
"لماذا لا نكون أصدقاء الآن؟" قال الآخر، وهو يحتضنه بمودة. "هذا ما أريده. هذا ما تريده". لكن الخيول لم ترده، فابتعد الحصانان مُفترقَين؛ والأرض لم تُرده، فأرسلت صخورها لتضيّق الطريق فيعبُرَ الرّاكبان فُرادى؛ والمَعابد، الخزّان، السجن، القصر، الطيور، الجِيَفة، وبيت الضّيافة... كلها لم ترد ذلك. كلها هتفت بأصواتها المائة: "كلا، ليس بعد"، والسماء قالت: "كلا، ليس هنا".
... عن «الغد» الأردنية