جسد واقف يتعكز عليه الهواء!

التقاط.PNG
حجم الخط

 

رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين

لا يوجد وقت، النهار والليل مشغولان، قاعة المحكمة العسكرية في عوفر تحولت الى ما يشبه سوقاً مكتظة، أسرى قادمون اليها، واسرى خارجون منها الى السجون، ومدة المحكمة لا تستغرق سوى اربع دقائق ويغلق الملف ويقفل باب السجن، والعديد من الاسرى تؤجل محاكماتهم تحت ما يسمى حتى انتهاء الاجراءات، وجوه كثيرة مترقبة ومتحفزة، ازدحام في قاعات المحاكم ، وهنا الجميع: الكبير والصغير الرجل والمرأة، المريض والمقعد، وتعتقد حينها ان كل الشعب الفلسطيني في المحكمة بل كل الشعب الفلسطيني مرّ من هذه المحكمة ، وأن دولة اسرائيل بقضاتها وشرطتها وجنودها ومحققيها مشغولون بمحاكمة أبناء الشعب الفلسطيني.

تتمنى وأنت الجالس في قاعة المحكمة أن تسمع حكما بالبراءة على أسير، الجميع مدان، وكل من يمثل في هذه المحاكم قنابل موقوتة تصدر بحقهم احكاما بالسجن الفعلي وغرامات مالية كبيرة، وتتخيل هؤلاء القضاة العسكريون وقد تحولوا الى جباة للمال، متبلدين فاقدي المشاعر يفرضون احكاما جائرة على المعتقلين، لا يسمعون ولايقرأون ولا يعرفون ، يأتمرون بما طلب منهم، وما قرر لهم في السياسات العنصرية الاسرائيلية.

الفتى القاصر مصطفى عيد التميمي - 17 سنة المعاق عقليا يجلس في قاعة المحكمة ينتظر المحاكمة، يسمع لغة تشبه لغة القانون يطنطن بها القضاة لا يفهمها، ويرى المشهد قاسياً حوله.. عائلات الاسرى متوترة وخائفة.. أطفال صغار مقيدين يتواجدون في المحكمة، معاقين على عكازات وجرحى ونساء اقتادوهم الى هذه المحكمة، وصلوا مبكرا وحشروهم في غرفة الانتظار الباردة ساعات طويلة ، يرتجفون ، ملامحهم توحي بانهم تعرضوا للضرب والتنكيل.

المعاق مصطفى التميمي شاهد كيف انهال الجنود وحراس المحكمة ضربا على أحد الأسرى الإداريين الذي رفض الوقوف للقاضي والاعتراف بشرعية المحكمة صارخا في وجوههم : لا يوجد عدالة في هذه المحكمة التي تعتقلني دون اي سبب وتمدد اعتقالي دون أي سبب، لستم قضاة انتم جنرالات حرب في لباس قضاة، هذه تمثيلية وليست محاكمة. جروه تحت وابل من الضرب الى قفص حديدي بعد أن قرروا تجديد اعتقاله الاداري للمرة الثالثة.

المعاق مصطفى التميمي لم يقرأ اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على أن اعتقال الطفل هو الملاذ الأخير ولأقصر فترة زمنية ممكنة، ولكنه ابدى دهشته من وجود عدد كبير من الاطفال لهم مدة طويلة موقوفين بالسجن ، شعر ان وقت المحكمة ممل وطويل ومليء بالتجاعيد، وشعر كأن أحدا يريد أن يسقطه الى داخل حفرة عميقة، هاهم يطردون الصحفيين ويبدأون بمحاكمة الطفلة عهد التميمي، الوقت صار مغلقا وحالة استنفار أعلنت في محيط المحكمة.

المعاق مصطفى التميمي، من سكان قرية دير نظام قضاء رام الله ، يعتقل للمرة الثانية في أقل من شهرين بعد ان وضع تحت الاقامة الجبرية ومنع من مغادرة القرية ، اصبح يشكل خطرا وجوديا على دولة الاحتلال، لاحقه الجنود وكبلوه وزجوه في السجن ، وها هو يحاكم بتهمة خرقه للاقامة الجبرية، ولأنه رأى عشبة خضراء في آخر الحقل فذهب اليها، وينبوعا على ضفاف التلال القريبة هو الوحيد الذي يعرف اسرارها الباطنة.

المعاق مصطفى التميمي متهم أن جسده صار معجما للطبيعة فأضاء في فصولها، وان عقله المعاق صار اكبر من دولة اسرائيل العظمى، انقضوا عليه لأنهم سمعوه يخاطب الله في صلاته قائلا: أدمجنا في شعاعك، أهّلنا لكي نكون هبوبا في هوائك، الهمنا لكي نخترق هذه الجداران والحواجز، ولكي نعرف كيف نكتب الفجر.

دولة الاحتلال الاسرائيلي اعتقلت المعاق القاصر مصطفى التميمي، وباسم الديقراطية الاسرائيلية، وباسم القانون والنوازع الاخلاقية، واستنادا الى دولة متجبرة تعتمد مبدأ حق القوة بدلا من قوة الحق ، قررت محاكمته لانه خرج من القرية حالما بالنهار بعد أن ايقظته الشمس التي كان يحلم بها.

في المحكمة العسكرية في سجن عوفر يحاكم الطفل المعاق عقليا مصطفى التميمي، جسد واقف يتعكز عليه الهواء ، قضاة يوشوشون انقاضهم، يتحسسون مسدساتهم ، يقرأون بهمس أسفارهم، يعتقدون ان في جسده ماء، وفي عقله سماء، لا بد ان يفرغوا سماء الجسد من الغيم، وان يشددوا الحراسة على عقله حتى لا ينفجر، وقرروا ان يستدعوا الصواريخ والطائرات ويسرعوا أكثر في إقرار قانون الاعدام، فهذا المعاق يشكل تهديدا على وجود الاحتلال ، انه يفهمهم، يفهم كل اللغات.

في المحكمة العسكرية في سجن عوفر يحاكم الطفل المعاق عقليا مصطفى التميمي... لائحة اتهام طويلة، تنص بنودها بأنه يتنفس من هواء القدس، وأن الأرض الجريحة تصعد الى روحه فتشفى، وأنه يجلس دائما تحت زيتونة معمرة، يراقب الرياح تحمل مؤونة القمح بايادي الشهداء المتمّوجة ، يتفوّه بكلمات غير مفهومة ولكنها توحي بتأهب أعضائه المتعبة.