المؤتمر الذي فقد عقله

660951520877038.jpg
حجم الخط

 

مطالعة المصطلحات والأفكار التي سادت بين يدي أحدث مؤتمرات اللجنة الأميركية للعلاقات العامة (إيباك)، تثير الاعتقاد بأن المشاركين الأميركيين والإسرائيليين، يقرأون عن شيخ واحد. ولولا مظنة المبالغة، لذهبنا إلى أن مداخلات مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، ونيكي هايلي سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة، قد روجعت ونقحت مسبقاً، بمعرفة فقهاء وساسة إسرائيليين أقحاح.

معالم التخاطر بين خطابات المتحدثين الأميركيين والإسرائيليين، تتجلى في التلاقي والتوافق على تنظيرات ومواقف وتقييمات بعينها.. مثل الدفع بأن إسرائيل دولة غير معزولة وقوية وتقدمية، وتسهم تقنياً وأمنياً في تحقيق التقدم والأمن على الصعيد العالمي، وأنها التي ستقاطع من يقاطعونها، وليس العكس، وهي تسعى للسلام، بينما يرفضه الفلسطينيون، وأن رياح التغيير تهب على الشرق الأوسط، بحيث أصبح الأعداء القدامى أصدقاء، وأن الأيام التي كانت تلام فيها إسرائيل في الأمم المتحدة قد ولت، وأنها لا يمكن أن تظل البلد الوحيد الذي لا يستطيع اختيار عاصمته.

نصف أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، وثلث أعضاء مجلس النواب، حضروا هذا المؤتمر، وكلهم مدحوا إسرائيل، وباحوا بحبها، وتعهدوا بضمان أمنها. وفي حمأة عواطفهم الجياشة، لم يستطرد أحد منهم إلى أي من الأسس والمعايير القانونية المنظمة العلاقات بين الأمم المتحضرة، ولا انشغل بأي قرار دولي موصول بالمعضلة الفلسطينية.

التشبّع بالمثل الصهيونية والافتتان بإسرائيل، أطاحا بعقول القوم، وأبعداهم عن الرشد والعقلانية ومفردات الديمقراطية وحقوق الإنسان والشعوب. الأمر الذي جعل المؤتمر أقرب إلى مهرجان خطابي صاخب، منعدم الصلة بالمبادئ والقيم السياسية والأخلاقية، التي يصدع بها الغرب رؤوس الخلق. لم يشر أحد من المؤتمرين، الذين بلغ عددهم زهاء 18 ألف شخص، إلى إسرائيل، بوصفها دولة قائمة باحتلال دولة أخرى معترف لشعبها بحق الاستقلال وتقرير المصير، اسمها فلسطين.

غياب الحكمة وصوت العقل عن محفل يشتهر بالتأثير في صناعة القرار الأميركي، حقيقة لا تبشر بالخير لمسار الصراع والتسوية في فلسطين. ويلاحظ أن الحلول المتداولة بهذا الصدد، كحل الدولتين أو الدولة الواحدة، لم تجد من يعطف عليها أو يدعو المؤتمرين للتدبر فيها، كي يقدموا للمعنيين شيئاً إيجابياً مفيداً. لقد انتصروا لمنهجية القوة، وغلبت عليهم شقوة العنجهية والاستعلاء، وحاولوا جميعهم لفت الأنظار والأذهان بعيداً عن البؤرة الفلسطينية.

بهذا المنحى، عرض المؤتمر مشهداً من الكوميديا السوداء، ظهر خلاله لئام الإيباك كجلادين يصلبون الضحية الفلسطيني، فيما يشيرون بأيديهم ويعمدون إلى توجيه المتفرجين والنظارة إلى خطر مفترض آخر. وفي السياق ذاته، جرى تصوير العالم بقضه وقضيضه تقريباً، بقوانينه وأطره التنظيمية، كعصابة من الأشرار المتربصين بإسرائيل، المتقدمة والتقدمية. إنها عقلية الجيتو، وقد ارتدت حللاً عصرية في أكثر دول العالم قوة وتقدماً وعقلانية!

نعلم أن العقل الصهيوني مغلق على ذاته، وأنه رتب الدنيا والآخرة وخطابات الأرض والسماء، بطريقة دوجمائية صلبة. ونعلم أن سدنة هذا الصندوق اللعين، أنشؤوا كياناً على شاكلتهم، لا يثق في أحد، ويحسب كل صيحة عليه، وينام بنصف عين، متأبطاً ترسانة جبارة من الأسلحة. لكن ما يصعب فهمه وتجرعه، هو انسياق أكثر من نصف الأميركيين خلف هذا الإفك. لا نفهم، مثلاً، كيف يصدق مؤتمرو الإيباك كذبة نتنياهو ورهطه، حين يتشدقون بانفتاح العالم على دولتهم، في الوقت الذي صوت فيه كل أعضاء مجلس الأمن، عدا العراب الأميركي، و129 دولة في الجمعية العامة، ضد قرار واشنطن بنقل سفارتها إلى القدس. ولولا تهديدات واشنطن بمعاقبة المخالفين لها، لكانت عزلة إسرائيل أشد إحكاماً وتوثيقاً.

أيضاً، لا نجد تفسيراً معقولاً لسكوت الأميركيين الناجين من حبائل الصهيونية، عن انحراف قياداتهم عن جادة الحق والعدل والقانون، في أكثر بقاع الدنيا حساسية، لمصالحهم المادية وأشواقهم الروحية. ترى، هل يظن هؤلاء أن هوجة الاستقواء الأميركي الإسرائيلي، وسياسة الإملاء ولي الأعناق وكسر الأيادي، بالنسبة لمصير فلسطين بعامة، والقدس بخاصة، سوف تمر وفقاً لمقولة «شاء من شاء وأبى من أبى». ألا يدركون أن سنن الاستعمار والتحرير، تتعارض على طول الخط مع هذا التصور؟.

 

عن جريدة "البيان" الإماراتية