كي تكون «مصر أولا»

418241520876228.jpg
حجم الخط

 

إن كنتم تريدون مصر أولا، فلا بد أن تكون العروبة أولا، فالوطنية المصرية لا تكون بغير القومية العربية، ولو لم تكن القومية العربية موجودة افتراضا، لخلقتها الوطنية المصرية خلقا، كان ذلك درس مصر دائما، كلما نهضت، من نهوض محمد علي الذي لم يكن يجيد حرفا في اللغة العربية، وأسس جيش مصر الحديث الأول بتطلعه العربي، وإلى نهوض جمال عبد الناصر، الذي أسس جيش مصر الثاني في مجرى الصراع العربي مع إسرائيل.

وقد تكون التذكرة مفيدة، ومصر تتطلع الآن لإعادة بناء دورها، وفي ظل متغيرات عصفت بالمنطقة، وتوحشت فيها أدوار دول جوار، بعضها طبيعي وتاريخي كتركيا وإيران، وأخرى مصنوعة تماما على طريقة كيان الاغتصاب الإسرائيلي، فقد حققت تركيا نهضة اقتصادية وصناعية، مكنتها من التطلع لإحياء دور «عثماني» على طريقة أردوغان وصحبه من جماعات الإخوان.

وحققت إيران نهوضا عسكريا وصاروخيا ونوويا، أغراها بإحياء دور امبراطوري فارسي، يجتاح المشرق العربي بالذات، ولن تتمكن مصر من إعادة بناء دور، إلا بالتوازي مع نهوض داخلي أولا، يقوم على قواعد التصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية والديمقراطية المدنية والاستقلال الوطني، وقد قطعت مصر أخيرا أشواطا ملموسة في استعادة ركائز استقلالها الوطني، بما أضاف إلى قوة جيشها المتفوق أصلا، وهو ما يفسر عودة مصر الجزئية إلى دور، فمصر دولة دور لا تعيش بدونه، وليس بوسعها أن تبني دورها في فراغ، ولا أن تتعيش على أدوار وساطة وسمسرة سياسية واقتصادية، ولا على تحركات خبط عشواء متفرقة، تستهدي بقاعدة «الحركة بركة»، فبركة الحركة لا تكون بغير بوصلة مرشدة، وقانون حركة مصر منذ كانت لا يحتاج إلى إعادة تعريف، واختيار مصر البديهي أن تكون عربية التطلع والطموح، وهو ما يعني ـ بالطبيعة ـ أن تقاطع إسرائيل، لا أن تعود للتورط في التطبيع، وأن تعيد بناء المشهد العربي على أسس العصر، فنحن لا نملك أن نطوي بلادنا في حقيبة، وأن نذهب بها إلى عالم آخر غير عالمنا العربي، ففي الأخير تواريخنا وثقافتنا ومصائرنا المشتركة، وفيه الجغرافيا التي نحتل فيها الموقع المركزي، وفيه أشواقنا وأسواقنا، التي تعطي نهوض مصر مددا لا ينقطع، وإن كان الحرص واجبا، كما دلت دروس نهوض سبقت، فلا نهوض حقيقي بغير قوة واختيار الناس الأحرار، ولا نهوض دائم بغير الحذر من انزلاق إلى مصائد وحروب في غير أوانها، ولا عزلة ولا تناقض بين دور مصر العربي، وأدوار أخرى كتبت عليها، وفي دوائر حركة أوسع عرفتها خبرة مصر الحديثة، كأدوار مصر في إفريقيا والعالم الإسلامي، وأدوارها في حركة عالم متقلب في موازينه، تتراجع فيه سطوة القوة الأمريكية المتحكمة، وتتواضع فيه أدوار الغرب عموما، وتصعد أدوار أخرى في عوالم الاقتصاد والسلاح لقوى الشرق والجنوب.

والسؤال: هل تتقدم مصر الآن لدورها العربي؟ وقد غابت عنه لعقود هوان متصل، كانت هي نفسها عقود انحطاط مصر في داخلها، وغيبتها عن إيقاع العصر والعالم من حولها؟ الجواب عن السؤال ليس قاطعا إلى الآن، وقد يحتمل معنى «لا» و»نعم» في الوقت نفسه، «لا» لأن حركة مصر الراهنة ليست مخططة ولا متسعة بما يكفي، وليست ممتدة من خليج العالم العربي إلى محيطه، وقد تكون انشغالاتها وظروفها الداخلية عائقا موقوتا، وقد يكون التخبط في مدارات الحركة عائقا إضافيا، وإن أمكن القول مع ذلك، بصواب الجواب بنعم في حيز بذاته، ربما تعلق بمدار الحركة مع أشقاء مصر في الخليج العربي بالذات، وعلى قاعدة عروبية جزئية، فلدى مصر مصالحها الواسعة المباشرة في دول الخليج، ولديها عمالة بالملايين، استقر غالبها لعقود، فيما يشبه أوطانها الجديدة، وسلامة أوضاعهم من أولويات الاهتمام المصري بالضرورة، غير أن الاهتمام المصري بعلاقاته الخليجية تطور كثيرا في السنوات الأخيرة، وبدا أن القيادة المصرية تفكر في معادلة أبعد أثرا، صلبها البحث عن تكامل وظيفي مطرد، وشراكة متزايدة بين فوائض قوة مصر العسكرية وفوائض المال الخليجي، وهو ما يفسر التطور المتضاعف لعلاقات مصر بدولة الإمارات والمملكة السعودية بالذات، وصعود معدلات الاستثمار الخليجي في مشروعات مصرية، وتكوّن محور سياسي واقتصادي مؤثر، خاطبت فيه مصر هواجس الخوف على أمن الخليج وثرواته، وبلورت فيه معادلة ارتباط الأمن الخليجي بأمن مصر، ولكن بدون مسايرة رغبات خليجية مباشرة ملحة، فقد وافقت مصر ـ مثلا ـ على انضمام سياسي للتحالف العربي في حرب اليمن، ولكن بدون التورط في حرب برية هناك، وبدون تورط في حملات القصف الجوي، مع حرص على استخدام قوتها البحرية المتفوقة في المراقبة عند «باب المندب»، وبدواعي مصالح مشتركة، تبرز فيها مصالح مصر الوطنية بالأساس، من نوع حماية خطوط الملاحة إلى قناة السويس، ومضاعفة معدلات التواجد المصري في القرن الإفريقي المضطرب، وهذه كلها من صلب مصالح الوطنية المصرية العروبية بطبعها، فلم تعد علاقة مصر بدول الخليج كما كانت من قبل، صحيح أنها زادت توثقا وتشابكا، لكن أولويات السياسة المصرية بدت حاكمة لا متحكما فيها، وهو ما ظهر بتفاوتات السياسة في مسائل عربية كبرى، من نوع المسألة السورية، التي أظهرت فيها السياسة المصرية تمايزا جوهريا، ابتعد بالجملة عن الميل الخليجي السابق إلى دعم جماعات الإرهاب وجماعات المعارضة المسلحة، وبصورة وصلت إلى منحها مقعد سوريا في الجامعة العربية، وهو ما وقفت ضده السياسة المصرية، ونجحت بإلغائه، وطورت موقفا آخر، بدا أقرب إلى أولوية حفظ وحدة سوريا وتحريرها من جماعات الإرهاب، وحفظ ما تبقى من كيان الدولة السورية والجيش العربي السوري، وتصعيد نبرة رفض التدخلات التركية الخشنة في سوريا، والتنسيق أكثر مع الدور الروسي، وعدم قطع خيوط تواصل مع الدور الإيراني، رغم رفض توحشه مبدئيا. ومع تلاحق الأيام والتطورات، بدا أن الموقف المصري يزيد تأثيره في الموقف الخليجي بعامة، وفي مواقف الإمارات والسعودية بالذات، وكان للتحول توابعه المرئية، فدول الخليج الحليفة لمصر، تركز بصورة شبه مطلقة على أولوية الخطر الإيراني، في ما تبدو السياسة المصرية متضامنة معها في حدود متحفظة، بينما ركزت السياسة المصرية بهدوء ومثابرة على الخطر التركي، وكان لذلك أثره التراكمي الملحوظ، وعلى طريقة أقوال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة للقاهرة، فقد نقل عنه جمعه لتركيا (العثمانية) وجماعات الإخوان مع إيران في زمرة حلف الشر، وتحدث عن تطابق مع السياسة المصرية بنسبة مئة بالمئة، وربما لا يبقى في جراب النقاش الحاضر غير قصة التسوية الإقليمية للصراع مع إسرائيل، وما يسمونه «صفقة القرن» المنسوبة لترامب، ومن حسن الحظ أن طريق الصفقة سيئة الذكر يبدو مغلقا.

فالصفقة ليست بيد النظام المصرى ولا نظم الخليج، ولا هي رهن مشيئة تفاهم سري أو علني مع ترامب، بل رهن الموقف الفلسطيني الرافض بالبداهة وبالجملة، والذي لا تملك مصر بالذات مخالفته حتى لو أرادت، خصوصا مع زياد نبرة الرفض الرسمي المصري الحاسم لأي اقتراحات تبادل أراض أو اقتطاع شبر من سيناء، لصالح الصفقة المقبورة قبل أن تولد.

وانسداد الأفق أمام أي تسوية فلسطينية إسرائيلية في المدى المنظور، وتراجع الدور الأمريكي عموما في المنطقة، قد يحرر حركة مصر الرسمية مما تبقى من قيود والتزامات، وقد يدفعها إلى حركة في فضاء عربي أوسع، وقد كانت الزيارة الخارجية الأولى للرئيس السيسي بعد تنصيبه إلى الجزائر، والأخيرة هي مركز الثقل في المغرب العربي كله، وبين الجزائر ومصر ملحمة كفاح عروبي طويل، امتد من حرب تحرير الجزائر إلى حرب أكتوبر 1973، وربما يجدر بالسياسة المصرية، خاصة مع تركيزها على مصير ليبيا الممزقة، ومع الرغبة الكامنة في استعادة دور عربي أكثر تأثيرا، أن تلتفت لصناعة شراكة متطورة مع الجزائر، ما من تناقض بينها وبين الشراكة المصرية خليجيا، فاستعادة وزن الجزائر عربيا، يصحح معادلات اختلال وشلل عربي، ويضيف إلى الجهد المصري الضمني لإنقاذ سوريا، ويخلق معادلة قوة ممكنة، يضاف فيها جهد الجزائر إلى جهد مصري سعودي، يتيح إمكانية خلق مركز ثقل عربي، يقرب مسافات البحث عن حل يستعيد كيان الدولة الليبية، ويعزز تفاهما عربيا مطلوبا، يستعيد بعض الروح إلى جامعة الدول العربية، خصوصا مع أوضاع سوريا الراهنة، التي تحتاج إلى طرف عربي مؤثر، يكون شريكا في مداولات مصيرها، المحجوزة حتى الآن لقوى دولية وإقليمية، تتناهش لحم سوريا، وتقتسم مناطق النفوذ، وتقرر المصائر، وتهدد بمحو الوجه العربي لسوريا، وقد تحولت الأخيرة إلى معمل تفاعلات، يصوغ معادلات التوازن الجديدة على القمة الدولية، ومن شأن استعادة الروح لدور عربي، تستطيع مصر الدفع إليه بتوسيع نطاق حركتها العربية، أن يحول محنة سوريا إلى فرصة بعث عروبي جديد، تحتاجه سوريا بشدة، بقدر ما يحتاجه العرب، وتحتاجه مصر بالذات، فلم تتورط مصر أبدا في مقتلة سوريا، لكن سوريا تبقى أهم بلد عربي بالنسبة لمصر، واستعادة سوريا عربيا هي الفريضة الغائبة، ولا تبدو المهمة ميسرة، لكنها ليست مستحيلة، ولدى مصر خطوط تواصل تستطيع تفعيلها، ومغادرة مواقع الحذر الزائد، والتقدم إلى صياغة مبادرة عربية جامعة للأطراف المؤثرة من مشرق العالم العربي إلى مغاربه، وقد كانت وحدة مصر وسوريا ذات يوم هي مركز الإلهام والحلم القومي العربي، فيما تبدو استعادة سوريا لعروبتها هي نقطة التحفيز الممكنة الآن، وهي التحدي الأصعب وواجب الوقت، الذي يتوقف عليه مصير الجهد المصرى لاستعادة الدور عربيا.

 

عن جريدة "القدس العربي" اللندنية