02 تموز 2015
كيف يمكن الإجابة المختصرة عن سؤال كبير كهذا؟
دعونا نحاول.
مدخل لا بدّ منه:
إذا أردنا أن نشير إلى القوى السياسية الرئيسية التي تمثل أداة الهدم وليس التغيير في عموم منطقة الإقليم فإنها بدون أدنى شك قوى الإسلام السياسي.
وإذا أردنا أن نحدد بشكل حسّي وملموس المنظومات الفاعلة في إطار هذه القوى فإنها بكل تأكيد منظومات التطرف القائمة في «عقيدتها» على الإقصاء بأشد الوسائل همجية ووحشية.
وإذا أردنا أن نحدد أيضاً الكيفيات التي من خلالها تسلقت وتسللت هذه المنظومات لتعتلي المشهد القائم في الإقليم فإننا سنكون حتماً أمام عشرات السنين من الحقن الفكري وغسيل الدماغ الذي تعرضت له عدة أجيال من قبل الأطراف (المعتدلة والوسطية) والتي فرّخت هذه المنظومات المتطرفة وأصبحت تستحوذ على مشهد الإقليم حالياً.
وإذا كان لا بدّ لنا من تفسير حقيقي لكل ذلك فإن قوى الإسلام السياسي قد استفادت من الفترة النفطية على عدة جبهات وفي آنٍ معاً:
1ـ الجهة المالية، حيث تم ضخ عشرات المليارات من الدولارات بصورة رسمية أو شبه رسمية وخصوصاً من بلدان الخليج العربي وكذلك من ايران وتم في ضوء ذلك بناء اقتصاد سياسي فاعل للإسلام السياسي.
2ـ على الجبهة الاجتماعية تم في ضوء بناء وترسيخ الاقتصاد السياسي للإسلام السياسي بناء شبكات اجتماعية متكاملة بين قوى الإسلام السياسي وبين الفئات الاجتماعية المحرومة والأكثر فقراً في أحزمة الفقر التي تطوّق المدن العربية. كما ربطت قوى الإسلام السياسي فئات واسعة من الطبقة الوسطى بآليات اقتصادية متعددة الوسائل والأغراض.
لقد دفع الإسلام السياسي عشرات المليارات من الدولارات للسيطرة على النقابات المهنية في عموم منطقة الإقليم، وأصبح لديه دوائر فاعلة للتجنيد السياسي المبطّن بالمصالح الاقتصادية.
3ـ كما ربط الإسلام السياسي نفسه بالاقتصاد الطفيلي القائم على المضاربة والوساطة والتجارة المتوحشة، وأقام منظومات منسقة مع «المصارف» الخاصة ودخل في معظم نشاطات الشركات المالية (تحت مسميات المرابحة) والتي لم تكن في الواقع سوى تأسيس مباشر لاقتصاد خاص قادر على تشغيل المشروع السياسي وتجهيزه لاستلام السلطة.
كل ذلك لم يكن ليتم بدون «تحالف» الإسلام السياسي مع نظام الحكم السائد في الإقليم.
النظام العربي بمجمله «رأى» أن «اتقاء شر» هذه القوى يتطلب تقديم تنازلات كبيرة لها في حرية الحركة والتحرك مقابل الحصول على
«شرعية» نظام الحكم، ومقابل عدم الاقتراب المباشر من مسألة السلطة.
لقد سلّم نظام الحكم العربي لقوى الإسلام السياسي المدرسة والجامع ومن خلال حرية الحركة والتحرك مكن الإسلام السياسي نفسه، واستغل واستثمر المال السياسي في بناء البنية التحتية المطلوبة لمرحلة السلطة، خصوصاً وأن هذا «التحالف» أصبح يتفكك بصورة تلقائية من حيث الدرجة والمستوى مع تدهور الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية، وهو تدهور تتحمل فيه الدولة مسؤولية مباشرة وفي ضوء الفشل الكبير للمشروع التنموي لهذه الدولة، وفي ضوء استمرار الاستبداد بل ووصوله إلى درجات غير مسبوقة من العنف والإقصاء في ظل انفلات كامل لمنظومات الفساد.
باختصار شكل عجز الدولة وفشل مشروعها التنموي، وانتشار الفساد على نطاق شامل واستشراء العنف والقمع للحريات وكرامة الإنسان من خلال تحالف الأمن ورجال الأعمال المتنفذين الحاضنة السياسية لصعود ظاهرة الإسلام السياسي في نسختها المتطرفة، ومهد الطريق واسعاً أمام تمدّد الحاضنة الاجتماعية وانتشار ثقافة الهدم والتدمير.
ترافق كل ذلك مع مواتاة تاريخية جرى من خلالها تبلور ما يسمى بالفرصة التاريخية، والتي نتجت عن صعود لليمين في بلدان الغرب الرأسمالي، وعن سقوط المعسكر الاشتراكي وتفشي ثقافة «الحرب» لدى الأوساط الرجعية في هذا الغرب وأساليب الليبرالية الجديدة التي أوصلت العالم إلى مرحلة التوحش الرأسمالي. وترافق هذا الانقلاب في المعادلة الدولية مع اختلال مماثل في المعادلة الإقليمية، فقد صعد اليمين في إسرائيل لسدة الحكم لأول مرة في العام 1977 وانتشرت الظاهرة الخمينية بعد ذلك بعدة سنوات فقط.
انتجت سنوات ما بعد ثورة أسعار النفط الأرضية الاقتصادية والاجتماعية ظاهرة الفاشية الدينية الجديدة، وانتجت ثقافة العنف والإقصاء في ظل هزيمة ساحقة وماحقة للمشروع «القومي» والمشروع اليساري إضافة إلى هزيمة الدولة الوطنية في كامل مشروعها التنموي والتحرري في آن معاً.
لم يحدث في التاريخ المعاصر مفارقات وتقاطعات تاريخية مواتية كما حدث مع الإسلام السياسي، ولم تتوفر المعادلة الإقليمية والدولية والأرضية السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما توفرت للإسلام السياسي، ولم يصل عجز الدولة الوطنية وفشل مشروعها التنموي كما وصل إليه هذا العجز وهذا الفشل في حالة الدولة العربية.
لهذا كله ولأسباب أخرى كثيرة وهامة، موازية ومكملة تحول الإسلام السياسي وانتقل من مرحلة الدعوة والتبشير إلى مرحلة العنف والإرهاب بمجرد انتقال قوة ومكانة هذا التيار من مرحلة «التمكين» و»الكمون» إلى مرحلة إشهار السيف وقطع الرقاب.
وما بين مرحلة الدعوة ومرحلة الإرهاب جرت مياه كثيرة أدت إلى تحولات عميقة داخل منظمات الإسلام السياسي وهي جزء هام من خلفية المشهد في رؤية واقع الإقليم ومساره اللاحق.
هذا المدخل المطول نسبياً ليس إلا نوعاً من التمهيد الضروري للإجابة عن سؤال هذه المقالة:
إلى أين يتجه الإقليم؟
إذا لم تداهمنا ـ على مستوى همومنا الوطنية الخاصة ـ من الأحداث ما سيملي التعرض لها، أنني أعد القارئ بعدة مقالات ـ أرجو أن تكون متسلسلة ـ للإجابة عن هذا السؤال. كما أعد أيضاً أن أتناول هذا المشهد بتناول المشهد الكلي كلما كان ذلك ضرورياً، وأن أتناول المشهد الخاص بكل بلد على حدة بقدر ما هو ممكن.