إحتباس الرواتب وكوميديا سوداء

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

 

 

إنتصف الشهر دون أن يتلقى موظفو غزة التابعون للسلطة رواتبهم، على الرغم من كون الرواتب غير المقطوعة سلفاً،  أصبحت منذ سنوات، ضئيلة ولا تكفي أسرة صاحبها، بعد أن أنقصتها خصومات كبيرة متدرجة، وصلت الى نسبة 40%. فعباس تعمّد مسبقاً بالتضييق الخانق على موظفي غزة في معيشتهم، وغالبيتهم تجاوز السن الذي يمكن أن يبدأ فيه تغيير عمله أو اكتساب حرفة على أمل الاسترزاق منها، إن وجد عملاً في سوق راكدة ومحاصرة. واليوم، عندما احتُبست الرواتب، لم يعد بالإمكان تلبية احتياجات المعيشة في حدها الأدنى. فالأذى المقصود، الذي أوقعه عباس ويؤديه على مسرح مشهود؛ يتفاقم على مرأى من الجميع، ويطاول جزءاً من شعب فلسطين، مُحاصرٌ في محشرِه الضيق، ولا يملك حتى ترف التظاهر أمام نوافذ مكاتب "المقاطعة" حيث يتبدى عباس مقتدراً، في قلب المنطقة العسكرية الإسرائيلية المركزية. أما العدو الذي يحاصر ويعتدي ويسفك الدماء، فقد أتيح له أن يتقمص دور المعترض على تعذيب الناس للناس في فلسطين، وهذه حال لم نكن نتوقع في أسوأ كوابيسنا أن نصل اليها!

حيال مثل هذه الكوميديا السوداء، أصبحت القوى السياسية التي يُفترض أنها تدافع عن حقوق الناس ــ على الأقل في لقمة خبزها ــ هي نفسها عاجزة عن حماية أنصبتها الضئيلة، من الموازنة والمال الاجتماعي. وإن صدرت أصوات أسيفة معترضة، من بين صفوفها،  فإنها تموء كالقطط، ويُسمع مواءٌ أقوى من بين صفوف الطرف السلطوي الذي يمارس التعذيب. وفي المحصلة لا شيء يتغير. فمحمود عباس ساهر على تطوير عذاب الناس ومفاقمته، ولا يتراجع عن موقع الهجوم، بينما هو الذي بيته من زجاج مليء بالثقوب الفاضحة!

هناك أصوات قبيحة تؤيد عباس في ممارساته، وهذه أصوات لا ترقى الى مستوى الانضمام، الى سيموفونية أصوات الكواسر والثعالب في الغابات. فشتّان بين حال كواسر وثعالب طليقة وقوية بطبائعها، وحال العبيد ذوي الأيدي والشفاه المرتعشة، الذين تصدر عنهم عبارات مرتجفة، تشطب ذاكرتها وتقول إن الموظفين جلسوا لسنوات في بيوتهم. فكأنهم جلسوا اعتراضاً على السلطة وليس امتثالاً لقرارها وخيارها، وكأن حتى الجالسين في بيوتهم، في دول العالم، لا يتلقون من الدولة أكلاف خبزهم!

في هجومه السافل، يحدد محمود عباس هدفه باختصار. إنه غزة وحسب، ولا قيمة عنده للتفصيلات. إنها غزة نفسها التي ابتنى لنفسه فيها منزله الفلسطيني الأول عند مفترق طرق، وكان إن استهدفه طرف فيها، تتولى أطراف أخرى إحباط الاستهداف وحمايته، مثلما حدث في موضوع النفق الذي حُفر باتجاه بيته حسب زعمه. ففي هجومه الراهن، ترتسم أولى المفارقات العجيبة، عندما يتقصد بالأذى، الطرف الذي كان يحميه ويُحبط الحفر، بينما الحافرون المفترضون ومن هم وراءهم، يسخرون منه ويعيشون في بحبوحة، أو على الأقل، لديهم مقومات معيشتهم ومعيشة أسرهم وأطفالهم!

 بكل موضوعية نقول، إن الذين يقلبون المعادلات بهذه الطريقة، هم وحدهم الأوغاد خائنو الأمانة والغادرون. ومثلما قلنا مراراً، إن محمود عباس، يفتقر ـ من بين ما يفتقر ـ الى الحد الأدنى من معرفة البُعد الاجتماعي للسياسة، إن كان في ممارسة الخصومة أو في الأخذ بناصية الوفاق. فمن يعاقبهم ويفاخر بأنه يحرمهم قوت أطفالهم، لو كانوا  من منتسبي حماس التي يزعم أنه يستهدفها؛ لوجب عليه بعد استشارة خبراء، تحييد منطقة الخبز والحليب وتغذية الأطفال حتى ولو كان آباؤهم من أعدائه، مثلما كان يفعل الشهيد الزعيم الرمز ياسر عرفات. وهذا ما يفعله المحاربون الأشداء، الذين يمتلكون كل مهارات الحرب، مع مجتمع أعدائهم. أما العمل المجنون، المثير للسخرية ويوسع دائرة الافتضاح؛ فهو أن يستهدف الحاقد الجاهل المتغطرس، مجتمعه هو، وأن يلعب بورقة تجويع الموالين له، والناس الأبرياء، لكي ينقضّوا على خصمه، علماً بأن العكس هو الصحيح بالنتيجة، لأن قطاعاً عريضاً من الجائعين، سيتفهم أسباب حماس في الانقضاض على سلطة يترأسها مخلوق من هذا النوع!

المفسرون الرديئون، لحدث احتباس رواتب موظفي غزة، يقدمون تخريجات وتبريرات مثيرة للاحتقار. فمنهم من يقول إن الأمر يتصل بالمهلة التي أعطاها عباس لحماس لكي توافق على اشتراطاته، ومنهم من يزعم أن الاحتباس وقع بسبب خلل فني، فيتضاحك على هذا المنطق، الحزانى والسعداء. فحماس حسمت أمرها سلباً، في اليوم نفسه الذي حدد فيه عباس شروطه، وتركته حراً في خياراته، إما أن يفصل غزة ويؤكد على أنه هو وليس سواه، صاحب مشروع الإقصاء والإجهاز على المشروع الوطني، وهو الذي يختص الموالين لهذا المشروع بالأذى العميق، وإما أن يستأجر خبراء، من طرف أي عدو، لكي يتعلم كيف يركز على حماس بتدابير عقابية، بدل التركيز على من أئتمنوه وانتخبوه وسلموا رقابهم اليه!