عنهم في يومهم

934091523789151.jpg
حجم الخط

 

نكابد الكتابة عن الأسرى الفلسطينيين، وما أدراك من هُم قبالة السجّان؟ هُم وهو زمنان في زمن: هم زمن «الحرية من السجن»، وهو زمن «الحرية إلى السجن». هُم زمن «الإنسان أصل كل الأعراق»، وهو زمن «دونية أعراق أغياره». هُم زمن طمأنينة أهلهم، سكان الأرض الوطن الأصليين، وهو زمن هوس أهله الغزاة، اتخذوا خرافة «الضحية الدائمة»، عدة شغل، تجسدها هنا، في السجن، أبراج مراقبة، وأسلاكاً شائكة، وكاميرات تصوير، وكلاب حراسة، وجدراناً عازلة. هُم الحر الطليق في الإنسان هو فيهم وسعُ، ورحبُ، وفسيحُ، بلادهم، غوراً، سهلاً، بحراً، وصحراءً، حُشر، ولا يزال يُحشر، في زنازين صممها، هو السجان، ضيقة، كأنها «جيتوات».

هُم، قبل أن يصبحوا رقماً إحصائياً يناهز مليون حالة اعتقال منذ 48، ما لا حدود له من دمٍ يُراق، وعمرٍ يُفنى، وجهدٍ بشري يُسكب، ونبض حياتي يُنزف، في ردهات السجان، بعيداً عن بساتين الحياة المجتمعية والأسرية، والتعلُّم والتعليم في الجامعة والمدرسة والروضة، والعمل المُنتِج في الحقل والمصنع والورشة، وخارج حدائق علاقات الأبوة والأمومة والزوجية والأخوة والصداقة والقرابة والجيرة. هُم غيضٌ من فيض نكبةٍ مفتوحة، بها، شق السجان أهلهم، كما تُشَقُ الشاة بالسكين، إلى نصفين: نصف هنا، في الوطن مُستباح، ونصف، هناك، في الشتات مُشرّد.

هُم بعضٌ من لزوم لازم «حاصر حصارك لا مفر، حاصر حصارك فأنت اليوم حر»، و«لا تمت قبل أن تكون نداً»، و«دقوا جدران الخزان». هُم ليسوا «مخربين»، ولا «إرهابيين»، بل مناضلو حرية، صارت عذابات المشردين، واستباحات «الباقين»، من أهلهم، حطب نار قلوبهم المشتعلة. فبين «وعدٍ بريطاني مشؤوم» و«وعدٍ أمريكي ظالم»، نفخا معاً الحياة في «وعد إلهي» مزعوم، مئة من السنين، هي لأسرى حرية فلسطين مشوار نضال حرية شاق طويل طويل، بدءاً بأجداد ثلاثة أُخرِجوا من زنزانة في سجن عكا، ولما رأوا حبل مشنقةٍ يتدلى تسابقوا عليه، فصارت حكايتهم حكاية أبطال هزموا الحبل والمشنقة والقبر. ومن آلام الرقبة تتدلى، وشهقات الروح ترتقي، شقوا درباً، ساره الأسرى الفلسطينيون، جيلاً بعد جيل، حتى عهد التميمي، هي فتاة وجيل، لا أجمل ولا أبهى، صفعت جندياً غزا بيتها، ومن آلام القيد يدمي معصماً طرياً طراوة عرق نعنع، أكدت مؤكَّداً: «مات الكبار» و«لم ينس الصغار»، و«الحبل على الجرار»، و«الأيام دُول».

أما مكمن عبقرية بطولة هؤلاء الأسرى، فهو: أن تعاند ضعفك، وأن تعض على جرحك وآلامك، حتى تنتصر. فأنت لست وحدك حتى وإن انفرد بك شرطي يحمل بضعة مفاتيح لا يستطيع بها سلْبك توقاً للحرية. لست وحدك، وأنت تعارك ضابطاً يُعذبكَ وينتظر أن يُقرع جرس يعلن انتهاء مهمته، ليغسل وجهه ويديه ويفِلُّ عائداً إلى ما يقول إنه بيته المُقام على جذور زيتونة تتوثب مرة أخرى لاستعادة الحياة، أو فوق تربة دُفنت فيها، ربما، عظام أجدادك الذين كانوا، وما زالوا منذ كنعان العربي الزُّراع والحصادين ومنشدي المواويل الجميلة، عتابا وميجانا ودلعونا، ومْعنَّى وزريف الطول.

لست وحدك، فأنت ترى من خلف كيس «الشادر» السميك خريطة وطن ابتُلي بشذاذ الآفاق يحاولون تجسيد الخرافة في «دولة» ثكنة. لست وحدك في الزنزانة الضيقة، فمعك ما تقتات عليه من صبر وتحمل، من تحد وأنفة، تمر عبر ثقوب الشبك الضيق أشعة نورانية تحاول غزلها لتنسج للعالم ثوباً من خيوطها.... إنها الشمس التي تدرك أنك ستلقاها يوماً، في حين يستعجل السجان الغروب كي يرتمي على سريره دون حلم. لست وحدك وأنت الذي أطلق الصرخة في البرية فتردد صداها في الوهاد، قد تشكو من الصمت أو من جرح غائر، لكنك تبقى تعض على جرحك، لأنه لا وقت للوجع، ولا وقت للشكوى، فالزمن هنا من وقفة عز، ومن تراب ينتظر المطر.. لست وحدك لأنك اخترت الجموع من الخطوة الأولى وإلا لكانت فروة رأسك سالمة، ولذا تستحق الآن أن يكون كل الخطاب لك، فقد كُتب بعذابات ليلك وآهات وجعك.

 

عن جريدة "الخليج" الإماراتية