حين يكون الرئيس «مافياويا»

146431523876487.jpg
حجم الخط

 

إذا كان مقبولا نسبيا أن تتضمن تغريدات وسلوكيات الأفراد العاديين بعضا من المبالغة والتهويل والكذب الخفيف أحيانا أو الثقيل أحيانا أخرى، فالأمر حتما غير مقبول بالنسبة لمسئول كبير فى أى بلد، فما بالك إذا كان هذا المسئول هو رئيس أكبر دولة فى عالمنا المعاصر. الكذب هنا أو الخداع أو التهويل أو التضليل يُعد بمثابة جريمة أخلاقية يجب ألا تُغتفر بأى حال. اكتب ذلك وعينى على بعض المقتطفات المُسربة أخيرا من كتاب جيمس كومى المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى، والذى أقاله ترامب بسبب خلافات جوهرية بشأن التحقيقات التى يقوم بها المكتب الفيدرالى حول أمور عديدة تخص ترامب وكيفية انتخابه، وعلاقاته النسائية الخاصة، ومدى التزامه بدفع الضرائب قبل توليه منصب الرئاسة، وأمور أخرى عديدة، من شأنها أن تؤثر سلبا على سمعة الرئيس وقدرته على إدارة شئون البلاد.

المقاطع المُسربة من كتاب جيمس كومى تضمنت اتهامات بالغة القسوة والخطورة للرئيس ترامب وإدارته وللعالم أيضا. وملخص ما قاله الرجل فى مذكراته أن الرئيس ترامب «كاذب محترف ويُخِضع المقربين إليه لقواعد ولاء مثل تلك التى تمارسها عصابات المافيا» والأخيرة هى عصابات الجريمة المنظمة والتى تفرض على أعضائها سلوكيات تمحو أى استقلالية فى ممارسة الحياة العادية، فكل شىء مرهون بإرادة المنظمة ومصالحها الكلية والتى تكون عادة أكبر من مصلحة أى من أعضائها، وإلا يصبح الثمن هو القتل بلا أدنى رحمة.

موضوع ولاء المرءوسين للرؤساء الأعلى موجود فى علم الإدارة، ومعروف فى كل أنحاء العالم وفى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وأيضا فى الشركات الكبرى أو المتوسطة أو الصغرى. وفى الدول التى يُقال إن المؤسسات والقوانين هى التى تحدد طبيعة هذا الولاء للمصلحة العامة ووفقا للقانون، يصبح موضوع الولاء أمرا مؤسسيا وليس شخصيا. فالرئيس هنا لا يطلب ولاء شخصيا من مرءوسيه بل يطلب منهم الولاء للقانون والقواعد المعمول بها. فى حالة الرئيس ترامب نرى الأمر معكوسا، فهو يريد الولاء لشخصه وأفكاره وتغريداته ومطالبه وانفعالاته، سواء كانت مطابقة للقانون والدستور أم لا. وفى كتاب جيمس كومى حكايات عديدة حول مطالب مباشرة من الرئيس ترامب له كرئيس سابق لمكتب التحقيقات الفيدرالى بأن يقوم بتحقيقات ذات طابع خاص وربما تنتهى الى خلاصات معينة تخدم الرئيس ذاته بغض النظر عن كونها قانونية أو غير قانونية. ومن الأمثلة الخطيرة التى كشف عنها كومى خلال جلسة استماع استثنائية في مجلس الشيوخ، أن الرئيس طلب منه «الولاء» وأن يتخلى عن شق في التحقيق الخاص بمدى التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن مستشاره للأمن القومي الجنرال مايكل فلين الذي أرُغم على الاستقالة لاحقا بسبب اتصالاته مع الروس. ومثل هذه الأمور تفسر لماذا أقدم كثيرون فى الإدارة الأمريكية وفى البيت الأبيض على الاستقالة طواعية، أو أرُغموا عليها، مثلما حدث مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ومن ثم الابتعاد عن خدمة الدولة الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب.

الأبعاد الشخصية للرئيس ترامب والمستقاة بقوة من خبرته السابقة كرئيس لشركات كبرى تنافس مثيلاتها وتمارس فى ذلك كل الألاعيب والابتزازات والخروج عن القانون من الصعب أن تنتهى بمجرد تولى منصب رفيع مثل رئاسة أمريكا. ما يهمنا نحن فى منطقتنا التى تُبتلى يوميا تقريبا بمواقف الإدارة الأمريكية والمناهضة للمنطق والحق وكل الأعراف الدولية يدفعنا إلى الحذر حين التعامل مع هذه الإدارة التى يصفها أحد كبار القانونيين الأمريكيين بأنها قريبة من المافيا. الحذر هو أقل شىء يمكن فعله، الارتماء فى أحضان تلك الإدارة لن يؤدى إلى تغيير مواقفها المناهضة للحقوق العربية، سواء فى فلسطين، أو فى أى أزمة عربية أخرى. لقد سلك ترامب سلوكا أقل ما يوصف بالفجاجة مع الكثير من رؤساء وقيادات دولية من الشرق والغرب. وبدا فى بعض المواقف وكأنه يتعمد إهانتهم.

حين يَفقد العالم ثقته فى رئيس أكبر دولة يصبح الجميع فى حال تخبط شديد. قيادة العالم ليست كرئاسة شركة مهما تكن كبيرة وعملاقة فى مجالها. إنها مسئولية الحفاظ على أمن العالم وسلامه بالدرجة الأولى ووفقا للقانون الدولى. ما نراه من مواقف متغيرة ومتضاربة بشأن سوريا سواء قبل مسرحية السلاح الكيماوى فى دوما أو بعدها يؤكد أن السياسة الأمريكية فقدت نضجها وفقدت صلاحيتها. الرئيس هدد بإفتعال حرب ضروس دون دليل، وأنذر بإرسال الصواريخ الذكية عقابا على شئ لم يحدث ولا يوجد دليل يؤكده، ثم يأتى وزير دفاعه وأمام لجنة فى الكونجرس ليؤكد أن بلاده لا تملك دليلا ماديا بشأن استخدام أسلحة كيماوية فى دوما، وما لديهم ليس سوى معلومات تتردد فى وسائل التواصل الاجتماعى، ومع ذلك فخيار الضربة العسكرية ما زال واردا ولكنه سيراعى الأبعاد الاستراتيجية فى سوريا، والتى لم يوضحها الوزير لأعضاء لجنة الكونجرس، ثم بعدها يعلن الرئيس قراره بضربة لما سماه القدرات الكيماوية لسوريا، بمشاركة كل من بريطانيا وفرنسا.

قلنا من قبل، وقال كثيرون إن اتخاذ مواقف تؤثر على أمن العالم وسلامه من خلال تغريدات تفيض بالانفعال اللحظى هو أسلوب لا يليق بدولة كبيرة مثل الولايات المتحدة، وأنه يحمل المخاطر على الجميع بما فى ذلك الولايات المتحدة نفسها. التغريدات باعتبارها موجهات للسياسة الخارجية تمثل عبئا على المؤسسات، خاصة أنها غير مدروسة ولم يراجعها فريق من المستشارين ذوى الصلة بالموضوع. وإذا ربطنا هذا السلوك غير المسبوق مع الاتهامات الخطيرة التى قالها جيمس كومى، ومن بينها أن «نظرة ترامب الى العالم على أساس أن الجميع أعداء لأمريكا. أكاذيب لا حصر لها أكانت صغيرة أم كبيرة في خدمة قواعد ولاء تضع المنظمة فوق الاخلاقيات والحقيقة.. فهذا رئيس غير أخلاقي وبعيد عن الحقيقة والقيم التي تقوم عليها المؤسسات الأمريكية». ومن ثم يتأكد لنا أن العالم بأسره وليس فقط سوريا المنكوبة سيظل على سطح صفيح ساخن مادامت تلك الإدارة تُسيّر أعمالها كمافيا وليست كدولة عظمى.

 

عن جريدة "الأهرام"