دورة هامة، ولكن

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

لست مقتنعاً أن ثمة مراجعة جادة يمكن أن تجري للمرحلة التي أعقبت اتفاقيات "اوسلو" في ظل تركيبة المجلس الوطني التي تم الإعلان عنها، وفي ظل ما يرجح أن تدخل إليه من أسماء جديدة على سبيل الاستبدال والاستكمال وسد النواقص والفراغات.
طبعاً لا أقصد القدرة الذهنية أو الفكرية على هذه المراجعة، وإنما القدرة التي تتعلق بالحوار الوطني الذي كان يجب أن يسبق انعقاد هذه الدورة، وآليات المساهمة والإسهام فيه على المستويات كافة.
وباستثناء ما قام به مركز الأبحاث ومركز التخطيط وكذلك مركز أبحاث الأمن القومي [مؤسسة ناشئة] فإن الساحة الفلسطينية افتقدت أية حوارات وجهود تذكر بمشاركة شعبية أو حتى نخبوية، ناهيكم طبعاً عن غياب كامل لدور المنظمات الشعبية والاتحادات والهيئات التي تمثل الفئات والقطاعات الجماهيرية، ولم يلمس أي جهد يذكر للجامعات ومؤسسات الثقافة والفن والإعلام.
الجهود التي أشير إليها أعلاه هي جهود مقدرة ومشكورة، لكنها لم ترق إلى القدرة على صياغة قواعد ارتكازية كافية لبناء منظومات تكاملية في قراءة وتشخيص معالم الواقع الذي أفرزته التجربة السياسية، ولم ترق من باب أولى إلى مستوى القدرة على رسم مخارج فعالة وعملية من المأزق الوطني.
أغلب الظن أن "معارك" المجلس الوطني في دورته الحالية ستتركز (مع الاسف) على الأسماء والمناصب واللجان والترشيحات والانتخابات وغيرها من المعارك المعهودة.
لكن علينا أن نسجل قبل التوغل في انتقاد هذه الدورة للمجلس أن اكتمال النصاب القانوني وبزيادة مريحة هو نجاح كبير في حد ذاته.
إذ يبدو أن تكريس وتعزيز شرعية المؤسسة في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة فعلاً هو الهدف الأهم من وراء عقد هذه الدورة، وإشارة الرئيس كانت واضحة جداً. يعتقد البعض أن مكانة المنظمة ودورها وصفتها التمثيلية هي مسألة ذاتية يمكن للمنظمة نفسها أن تقوم بها، وأن المجلس لا يمكن له القيام بهذا الدور إذا لم تكن قيادة المنظمة مهيأة وجاهزة وراغبة، تمتلك الإرادة للقيام به.
هذا صحيح على العموم ولكن هو  وحده القادر على إلزام المنظمة القيام بذلك، هذا أولاً.
أما ثانياً، فإن المجلس من خلال تثبيت وتجديد شرعية المؤسسة هو الجهة الوحيدة القادرة على إجراء التعديلات والتغييرات المطلوبة لتحويل تجديد الشرعية إلى آليات عمل وإجراءات تنفيذية ملزمة.
أما ثالثاً، فالمجلس وحده، ووحده فقط هو الذي يسقط ويدحر كل المحاولات التي تجري على قدمٍ وساق لإيجاد صيغ بديلة أو موازية للمنظمة.
والحقيقة التي باتت مؤكدة الآن هي أن صفقة القرن ليست قادمة وإنما هي جارية، وأن شرعية المؤسسة هي واحدة من أكبر استهدافات الصفقة، وربما تكون بوابة (شرعية أو عدم شرعية المؤسسة) هي أحد أكبر البوابات لعبور خيول وأحصنة الصفقة إلى الساحة الوطنية.
وإذا كانت كل المحاولات (من الزاوية التاريخية) قد جرت بعد النكبة لطمس الهوية ومصادرتها، فقد ظلت هذه المحاولات قائمة عبر محاولات الضغط على الشرعية الفلسطينية وابتزازها والتقليل من دورها ومكانتها إلى أن وصلنا اليوم في هذه المحاولات إلى تبديدها وتشتيت شرعيتها.
وبهذه المعاني كلها فإن اللحظة السياسية الراهنة هي لحظة الحفاظ على المنظمة وعلى شرعيتها ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
إن الحجة التي تطرح في الساحة الفلسطينية حول ان المنظمة لن تتكرس شرعيتها قبل دخول حركة حماس إليها هي حجة ضالة ومضللة، ليس فقط لأن الانقسام هو أحد أسرار غياب حماس عن الانخراط في المؤسسة الشرعية، بل لأن حركة حماس قد ربطت عملياً بين هذا الانخراط وبين بقاء واستمرار سيطرتها على القطاع، وتحويل "قوتها" وثقلها إلى معول هدم للمؤسسة الشرعية بدلاً من إلقاء هذه القوة والثقل في معركة اصلاح المنظمة وتفعيلها وتطويرها وتعزيز دورها ومكانتها، والقبول بالشراكة الوطنية القائمة على برنامج الإجماع الوطني.
ولهذا فإن المجلس الوطني مطالب أن يبقي الباب واسعاً وكبيراً أمام حركة حماس للدخول والانخراط في المؤسسات الشرعية كافة والتي هي شرعيات متفرعة عن الشرعية الأم وهي شرعية ووحدانية التمثيل الذي تجسده المنظمة.
لا يوجد إنجاز للشعب الفلسطيني أكبر من إنجاز المنظمة، ولا يوجد حركة تحرر وطني في التاريخ المعاصر استطاعت أن تمثل شعباً كما فعلت المنظمة في ظروف تشريد وتشتيت الشعب الفلسطيني.
الذين لا يرون ذلك مصابون بالعمى السياسي والوطني، والذين لا يرونه بوضوح لديهم "غبش" وطني، والذين يرونه بوضوح ومستعدون للتضحية به فهم خارج كل ما هو وطني. ومع أهمية كل ذلك فإن هذه الدورة للمجلس إذا لم تضع آليات عمل فعالة وحقيقية، وفي اطار زمني وخطط تنفيذية لإصلاح المنظمة وإعادة كل ما يمكنها من إحداث الفرق المطلوب عن كل المرحلة التي أعقبت "اوسلو" فإن المنظمة ستكون في خطر وخطر حقيقي وحينها لا يلومنّ أحد سوى نفسه.
اليوم معركة الشرعية هي نفسها معركة مجابهة "صفقة القرن"، ومعركة الشرعية هي نفسها معركة إنهاء الانقسام، ومعركة الشرعية هي نفسها معركة إعادة الوحدة واللُّحمة إلى الوطن والشعب والقضية.
نقطة الارتكاز الكبرى والقاعدة الصلبة لكل مجابهة وطنية مع محاولات تصفية المشروع الوطني هي المؤسسة، وكل تهاون في تصليب وتعزيز مكانة هذه الشرعية هو اختيار طوعي للهروب من هذه المجابهة.
المجلس الوطني مُوحَّد، ولسنا أمام خيار مجلس توحيدي، نحن أمام مجلس وطني فلسطيني قادم له صفة التعددية الكاملة وصفة الشمولية، وفي حينها يكون في وضع يُمكِّنه من مسابقة الريح ومجابهة المستحيل.