عام على ورقة «حماس» السياسية... تحولات الرؤية والموقف بين ميثاقين

thumb (4).jpg
حجم الخط

 

عندما انطلقت حركة «حماس» في مشروعها المقاوم للاحتلال في كانون الأول 1987 لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية والتصدي لجيش الاحتلال في ملحمة الانتفاضة البطولية، كان عليها إيجاد صياغة فكرية لمشروعها الجهادي، يُلهب مشاعر الجماهير، ويُلهم قادتها الميدانيين على الحشد والتعبئة لاستمرار المواجهات، وتثمين عطاء الشهداء والجرحى وتضحيات المعتقلين والأسرى، ويرسم الخطوط العريضة لوعي الجيل المقاوم بالتحديات التي تنتظره في صراعه مع دولة الاحتلال المارقة.. من هنا، وُلدت فكرة الميثاق، وكان الاجتهاد.

إن ميثاق حماس كان - في الحقيقة – رداً على واقع الاحتلال الظالم، وهو وإن كان وجهة نظرٍ لأحد أهم شيوخ الحركة المخضرمين؛ الأستاذ عبد الفتاح دخّان، إلا أنه قد تمت المصادقة عليه داخلياً في ظل ظروف الانتفاضة الاستثنائية عام 1988، باعتبار أنه وثيقة مطلوبة للتعبئة والحشد ضد الاحتلال الغاشم، ولم يتم التدقيق - آنذاك - في بعض مفرداته الدينية والسياسية من وجهة نظر القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بشكل عام.

في عام 1992، ومع بداية تشكيل مكتبها السياسي برئاسة د. موسى أبو مرزوق، حاولت حركة حماس إجراء تعديلات على ميثاق عام 1988، والذي أثارت لغته الدينية وبعض بنوده جدلاً كبيراً حرَّكته إسرائيل، بهدف إلباس حركة حماس عباءة الشيطان واتهامها بالتطرف والإرهاب، ولكن اعتراض البعض في الساحة الإسلامية وانتقاده لمثل هذا التوجه، وتحذيره لقيادة حركة حماس من مغبة انتهاج مثل هذا السلوك، كون أن ذلك سيتم فهمه بأنه توجه يمضي على خطى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والتي سبق لها أن تبنّت تعديل الميثاق أو هكذا فُهِم في حينه من رد الرئيس ياسر عرفات خلال زيارة له لفرنسا عام 1989، فعند سؤاله عن ميثاق المنظمة، كانت كلمته الشهيرة (كادوك)، والتي فهمها العالم بأنها الشطب أو تعليق العمل به.. بعدها، مضى مسلسل التنازلات التي أفضت إلى اتفاق أوسلوا، وتداعياته الكارثية على القضية الفلسطينية.

كما أن هناك الكثير من المفكرين والنخب الإسلامية التي أبدت تخوفها - إذا ما أُخذ باقتراح التعديل - من حرف بوصلة المقاومة عن أهدافها، والرضوخ للمطالب الغربية والإسرائيلية التي لا تنتهي، وأعتبر البعض ذلك إن تمَّ إنما هو بداية التراجع والهزيمة، حيث إن "أول الرقص حجلان"!!

كانت موجة الاعتراض والتحذير كبيرة، وخاصة في أوساط الإسلاميين في الأردن وفلسطين، الأمر الذي عطّل اتخاذ أي خطوة في هذا السياق، حيث أحجمت القيادة بعد ذلك عن الاقتراب من هذا الملف مرة ثانية.

وبعد توقيع اتفاق أوسلو في ايلول 1993، وقيام السلطة الوطنية عام 1994، سعى الرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) لاستيعاب الكل الفلسطيني، بدعوته لحركة حماس مشاركته مشهد الحكم والسياسة، والدخول في مؤسسات السلطة الوطنية، إلا أن موقف حركة حماس لم يكن بمستوى المرونة واللين المطلوب – آنذاك – للتعاطي مع تحديات المرحلة، وإن تجاوبت الحركة - نسبياً - بتأسيس حزب الخلاص الوطني الإسلامي.

يمكن القول، إن مشاركة حركة حماس في الانتخابات التشريعية وفوزها بالأغلبية عام 2006 تكون قد تجاوزت – إلى حدٍ ما - ميثاق 88، حيث إن المشاركة في العملية السياسية من ناحية كانت تعني أن تكون جزءاً من حكومة وطنية خرجت من رحم اتفاق أوسلو، الذي سبق أن عارضته منذ التوقيع عليه في ايلول 1993، والقبول بدولة فلسطينية على حدود عام 67 من ناحية أخرى، إضافة إلى استعداد الحركة للتعاطي مع الرؤى والحلول السياسية المطروحة من قِبَل المجتمع الدولي، وكذلك الانفتاح على محيطها الإقليمي بكل اتجاهاته وأنظمته التي لها تحفظات على العديد منها.

ربما كانت زَهوة الفوز بالأغلبية قد أخذت الجميع بالمفاجأة، وخلطت كل الأوراق وغيَّبت التفكير في عواقب أن تكون سياسياً؛ تدير الحكومة وتحرك الفعل المقاوم، وهي معادلة خطرة لسلطة قائمة تحت الاحتلال، وكانت كل حساباتها مبنية على أن إنجاز مشروعها الوطني مرهون بالدرجة الأولى على المفاوضات، والتعويل على المجتمع الدولي لتسوية القضية سلمياً، وفق اتفاق أوسلو في سياق "حل الدولتين".

من خلال عملي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية أدركت – آنذاك – أن هناك مشكلة تحتاج إلى نص يضبط جدلية "المقاومة والمفاوضات"، وفك حالة الاشتباك التي تبدو بينهما، فكان أن أوضحنا في ورقة البرنامج السياسي للحكومة أن المقاومة مرتبطة بالعملية التفاوضية، فإذا أنجزت المفاوضات طموحاتنا السياسية فلا داعي للفعل المقاوم؛ وهذا معناه عملياً إذا كانت هناك مفاوضات جارية فالمطلوب تعليق العمل العسكري بشكل واضح وصريح.

ولكن الأمور لم تمض بالتصور الذي تم وضعه في البرنامج السياسي، حيث أن المفاوضات كانت متعثرة، ولا تبعث على الاطمئنان بجدية الطرف الإسرائيلي، والعمل المقاوم هو الآخر لم يتوقف، الأمر الذي وفرَّ الذرائع لإسرائيل للتنكر للاستحقاقات المطلوبة منها بحسب الجداول الزمنية لاتفاق أوسلو.

تشكيل الحكومة وجدل أسئلة الميثاق

لم تتوقف الأسئلة على ألسنة الصحفيين والسياسيين التي تتعلق بميثاق 88، ومدى تمسك الحكومة أو عملها بالنصوص التي وردت فيه. كانت هذه الأسئلة تواجهنا دائماً، وقد كنت أشعر بأن هناك جهات إسرائيلية تقف وراء ذلك.. ففي الحكومتين العاشرة والحادية عشرة (حكومة الوحدة)، التي كنت فيهما مستشاراً لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية أو حتى في فترة عملي كوكيل لوزارة الخارجية، كان سؤال ميثاق 88 هو من تطاردنا أسئلته طوال الوقت!!

وبالرغم من الإيضاحات الكثيرة والشروح المطولة التي تناولتها في العديد من المقالات التي نشرتها على صفحات جريدة "الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمز" الأمريكيتان، وصحيفة "الجارديان" البريطانية، حيث أشرت فيها بأن الحكم على حماس يجب أن يتم النظر إليه من زاوية الواقع القائم والخطاب السياسي للحكومة، وليس من خلال النظر في ميثاق 88، الذي هو بمثابة ورقة تاريخية تجاوزناها بعد مشاركتنا في الانتخابات وتشكيل الحكومة، إلا أن عملية غسيل الدماغ التي قامت بها ماكينة الدعاية الصهيونية (الهاسبرا) وعلى مدار عقدين من الزمان أو أكثر، جعلت الكثيرين منهم غير قادرين على رؤية التحولات على الساحة الحمساوية، وظل النظر إلى حركة حماس في نطاق ميثاق 88، والتعاطي مع المسألة بمنطق "عنزة ولو طارت"، كما نقول في أمثالنا الشعبية.

من الجدير ذكره، أن حركة حماس وبعد تصدُّرها لمشهد الحكم والسياسة لم تتوقف جولات الحوار داخل مؤسساتها الشورية حول ضرورة إعادة النظر في ميثاق 88، وخاصة بعد الأحداث المأساوية في حزيران 2007، والتي وجدت فيها حركة حماس أنها أمام تحديات كبيرة تتطلب منها التخذيل عن نفسها، والخروج برؤية تقطع الطريق أمام استمرار إسرائيل في تسويق اتهامها لحركة حماس بالتطرف والإرهاب والعنصرية ومعاداة السامية.

تدريجياً، بدأت قيادة حركة حماس في دحض الاتهامات الإسرائيلية من خلال تصريحات قادتها المتعاقبة، وكان أبرزها المقابلة التي أجراها الأخ خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي للحركة، مع صحيفة «السبيل» الأردنية في آب 2010، والتي وضع من خلالها النقاط على الحروف، حيث أوضح توجهات حركة حماس وسياساتها من الكثير من الملفات المتعلقة بالداخل الفلسطيني، أو ذات العلاقة بالغرب واتجاهات عمل الحركة على المستويين الإقليمي والدولي.

لم تتوقف مطالباتنا بإعادة النظر في ميثاق 88، وضرورة الخروج بورقة سياسية جديدة تُمثل "القول الفصل"، الذي ترسم من خلاله حركة حماس آفاق رؤيتها الوطنية، وتحسم الجدل القائم حول الدولة الفلسطينية والموقف من المسألة اليهودية، وعلاقاتها مع الغرب والمجتمع الدولي.

كان الجواب: إنّ قيادة الحركة تعكُف على بَلورة ورقة سياسية جديدة، وستكون "شافية وافية". للأسف؛ تأخر صدور هذه الورقة السياسية الجديدة؛ لاعتبارات كانت متعلّقة بتطورات الحالة السياسية التي ظهرت مع حِراكات الربيع العربي، وإعادة الأمل بإمكانيات التغيير والتمكين للإسلاميين بإمساك خِطام الحالة السياسية في الوطن العربي، وتعزيز مكانة حركة حماس ومشروعها في التحرير والعودة.

ومع انتكاسة ثورات "الربيع العربي"، وانشغال الإسلاميين بتطبيب الجراح التي أصابت بلدان الربيع العربي، وانفجار الصراعات التي تعاظمت في العراق وسوريا وأخذت أبعاداً طائفية، ثم تمدد المواجهات المسلحة مع تنظيم الدولة (داعش) إلى كل من ليبيا وسيناء قد أوجدت إشغالات داخلية على مستوى الأمة، أدت إلى تراجع الدعم للقضية الفلسطينية ولحركة حماس، حيث وَجَدَت الحركة نفسها أنها محشورة وسط هذه النزاعات الطائفية، ومتطلبات اتخاذ مواقف تجعلها في مربع الاصطفافات والتحالفات غير المرغوبة، نظراً لحساسية القضية الفلسطينية؛ باعتبارها القضية المركزية للأمة، وأي انحراف في زاوية العلاقة مع هذا الطرف العربي أو ذاك الإسلامي سيجعلها في دائرة الاتهام والإقصاء!!

الورقة السياسية الجديدة... ألإطلاله والاستراتيجية

إن التوتر المُتعاظم للأجواء السياسية والأمنية المضطربة عربياً وإسلامياً، أوجد معه إشكاليات سياسية كبيرة لحركة حماس، واستدعت أن تكون للحركة قراءة جديدة في رؤيتها ومواقفها تجاه ما يجري حولها من تحولات صادمة، والعمل على تكييف حضورها ومكانتها، حيث أخذت تتهدد الحركة الكثير من الأخطار داخل ساحتها الفلسطينية ومع دول الجوار العربي.

وعليه، ففي حزيران 2017، وبعد نقاشات وحوارات داخلية مستفيضة، واستشارات سياسية وقانونية موسعة، ومخاض لجولات جدل فكري طويل، طرحت حركة حماس رؤيتها السياسية الجديدة في "وثيقة المبادئ والسياسات العامة"، والتي جاءت في إطار سعي الحركة لتطوير وتجديد فكرها السياسي، بما يتلاءم مع المتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية، والتي رأت فيها الحركة أنها تُعبّر عن رؤيتها وفكرها الجديد في كافة القضايا المصيرية، وتُقدّم إجابات عن وجهة نظر حركة حماس على مختلف التساؤلات المطروحة.

وفيما نحن نرصد واقع المتغيرات الإقليمية والدولية، والتي كانت لها ضغوطاتها وأثرها على الموقف السياسي لحركة حماس، والتسليم بحقيقة أن السياسة هي درجة احتراق الأيديولوجيا، فإنه يتبين لنا أن تلك المتغيرات كانت تتمحور حول التالي:

أولاً: المتغيرات الإقليمية

كانت التحولات التي جرت في الموقف الخليجي؛ وخاصة السعودية والإمارات، والتي اتهمت حركة الإخوان المسلمين بالتطرف والإرهاب، والمسئولية عما آلت إليه الأوضاع الأمنية في المنطقة من التردي والخروج عن السيطرة، صادمة لحركة حماس، كونها خرجت من رحم هذه الحركة الإسلامية الأم، التي تُمثل كُبرى الحركات الإسلامية، حيث تجاوز حجم أتباعها وأنصارها المائة مليون نسمة حول العالم، وذلك بحسب ما أورده يوسف ندا مع دوجلاس تومسون، في كتاب (من داخل حركة الإخوان المسلمين)، وهذا يعني خسارة حركة حماس لحاضنتها المعنوية الأهم في العالم، فضلاً عما كانت تُقدمه حركة الإخوان المسلمين عبر الجمعيات والمؤسسات التابعة لها من دعم مادي وإسناد جماهيري في الأقطار العربية والإسلامية والحواضر الغربية المختلفة.

وإذا أضفنا لما سبق الصراعات الدامية التي استشرت في العديد من الدول العربية وأكلت الأخضر واليابس على خلفيات سياسية وعرقية ودينية، كالعراق وسوريا وليبيا، ثم كانت المواجهات في اليمن مع الحوثيين، وتورط الإخوان هناك واستهدافهم بأسلوب مزدوج من قبل قوات الحوثيين وأنصار التيار الموالي للإمارات العربية المتحدة هناك.

لا يمكننا كذلك تجاهل انعطافات الوضع الأمني في سيناء، وتداعيات ذلك على العلاقة مع مصر، وما يستدعيه ذلك من تنسيق وتعاون مع الجهات الأمنية المصرية، والتي لها تحفظات على حركة حماس، حيث غدا الأمر إلى إعادة تكييف العلاقة مع مصر بالطريقة التي تحافظ فيها حماس على موقف غير عدائي تجاهها، وهذا ما استدعى أن يتضمن ميثاقها لغة واضحة وصريحة في العلاقة مع مصر، وأن الارتباط مع الإخوان المسلمين لا يتجاوز الإطار التاريخي لهذه العلاقة وأن حركة حماس ليس لديها ارتباطات تنظيمية أو إدارية مع أحد، وهي لا تتدخل في الشئون الداخلية لأيّ من دول الجوار.

كانت إنشغالات إيران وحزب الله في سوريا تعني كذلك إعطاء الأولوية لما يجري هناك من مواجهات تُهدد مستقبل النظام السياسي الحليف لهما؛ أي تراجع الدعم المادي لحركة حماس وتأخر إمكانيات الإسناد الذي قد تتطلبه أية مواجهات قادمة مع إسرائيل.

وإذا نظرنا للمتغير الآخر وهو تركيا – أردوغان، والتي شكّلت عبر السنوات السابقة دعماً معنوياً وإغاثياً للحالة الفلسطينية بشكل عام، ولحركة حماس على وجه الخصوص، من حيث الدفاع عن الحركة وتوضيح مواقفها في المحافل الدولية.. إذا أخذنا أولويات تركيا في تأمين حدودها مع كل من سوريا والعراق، بل وانشغالها – لاعتبارات متعلقة بأمنها القومي - بدرجات متفاوتة في النزاع القائم هناك، أدركنا حجم العزلة التي ستنتهي إليها أوضاعنا بعدما وجدنا أنفسنا مكشوفين بلا ظهر وطني يُمكن الاعتماد عليه ولا حليف بإمكاننا التعويل عليه إذا ما جدّ الجد، وحصلت مواجهات عسكرية سافرة أو حالة عدوان واسعة نجد فيها أنفسنا أمام حالة "يا وحدنا!!".

في الحقيقة، كان هذا المتغير الإقليمي هو الأصعب علينا، واستدعى هذا الأمر من الحركة التسريع بإنجاز ورقة الرؤية السياسية وتكييفها في السياق النضالي والمسار الاستراتيجي، لتحقيق التوافق داخل البيت الفلسطيني، بما يسمح بجسر الهوة بين أبناء الوطن الواحد.

ثانياً: المتغيرات الدولية

كانت المعطيات على الساحة الدولية تعمل بعيداً عن تحقيق آمالنا وطموحاتنا الوطنية، حيث جاء صعود اليمين المتطرف في أمريكا لتكريس الانحياز الكامل لإسرائيل؛ أي أننا أمام إدارة أمريكية جديدة لا تعترف بالتوازن في علاقاتها الدولية، وهي تتماهى في توجهاتها مع إسرائيل، وتنظر لها كحليف استراتيجي له الأولوية في الحسابات الأمريكية للمنطقة!!

ومع اللغة غير الدبلوماسية التي طالعنا فيها دونالد ترامب، والسياسات العدائية لإدارته تجاه الفلسطينيين وحركة حماس، اتضحت لنا الرؤية وانجلى الموقف وفقدنا الثقة بعدالة أمريكا تجاه حالة الصراع في المنطقة، وأننا سنكون ضمن دائرة الاستهداف في المرحلة القادمة.. إن هذه التخوفات، والتي تجلت فيما بعد في الحديث عن صفقة القرن، وما لمسناه فيما بعد من حرف لبوصلة الصراع باتجاه إيران بدل إسرائيل!!

لا شك أن كل هذه المتغيرات، قد تمَّ النظر إليه بقلق شديد، واعتبارها جزءاً من حالة التواطؤ العربي لإسقاط حق شعبنا في النضال، وشطب قضيتنا كأولوية من على الخارطة الإقليمية والدولية.

توجهات حركة حماس الداخلية

كان نبض الوثيقة ومراميها هو الحرص على الشراكة السياسية والتوافق الوطني، والتفاعل مع الآخر الفلسطيني في دائرة القواسم المشتركة.. حيث أوردت الوثيقة السياسية الجديدة في بندها (28) أن "حركة حماس تؤمن وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلّعات الشعب الفلسطيني".

وهذا الموقف أوضحه كذلك د. غازي حمد؛ القيادي في حركة حماس، حيث أشار في مقال له بعنوان (الشراكة السياسية: الأسس والمبادئ والتصور المقترح)، قائلاً: "إن الهدف من الشراكة هو تعزيز المؤسسات الفلسطينية بما يحقق المصالح العليا، من خلال إشراك الكفاءات من القوى والفصائل والشخصيات والمؤسسات، وبما يضمن النهوض بالمجتمع الفلسطيني في مختلف المجالات، وأن الشراكة لا تعني بحال ترسيخ مفهوم المحاصصة أو التقسيم الحزبي والسياسي بين الأطراف المشاركة، بل فتح الأبواب أمام الجميع للمساهمة والمشاركة في البناء الوطني، وأن مفهوم الشراكة يجب أن يطبّق على جميع الهيئات والمؤسسات التابعة للسلطة الفلسطينية".

واليوم وفيما نشاهده من مسيرة العودة الكبرى، فإن خيار العمل اللاعنفي، أصبح معمولاً به وبمباركة الجميع، بل إن الدعم الذي لقيه هذا الفعل النضالي قد وجد له استجابة كبيرة داخل حركة حماس أذهلت الكثيرين في الساحة الفلسطينية، وكأن الجميع قد تناسوا أن هذا التوجه نحو ممارسة أسلوب اللاعنف، هو أحد الأدوات النضالية لشعبنا في مواجهة المحتل الغاصب، والذي تبنته حركة حماس في ورقتها السياسية الجديدة.

الرؤية السياسية لحركة حماس

في ظل هذه الأوضاع المتأزمة عربياً ودولياً، وامتلاك إسرائيل لليد الطولى عسكرياً، يأتي السؤال حول أدوات حركة حماس المستقبلية في ظل هذه الأوضاع المحبطة والبالغة التأزيم والتعقيد؟

لا شك أن الإجابة حالياً لن تكون شافية بحال من الأحوال، حيث أننا نواجه مستقبلاً لا تُعرف مجاهله وأبعاد ما فيه من الغيب، وقد يصعب حالياً توفير منطقٍ يكفي لقراءة المشهد، وحتى لا نقع في طائلة القول "البلاءُ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ"، مما يوجب علينا التريث في إعطاء الجواب، وتعويض ذلك بلغة السيناريوهات، التي تمنحنا فضاءات أرحب للتأمل والتفكير، ووضع أكثر من تصور للتعاطي مع المعضلة واستشراف فهم المعادلة أو السماح بفهمها بشكل أفضل.

لعلي؛ ومن خلال التفكير الواقعي، والسجال الدائر داخل أروقة النخب الفلسطينية، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي، فإن خيارات المستقبل وفي سياق الضرورة يمكن رصدها في السيناريوهات التالية:

١) استمرار بذل كل الجهود لتحقيق المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، والابتعاد كلياً عن تحمل تبعات قطاع غزة المعيشية، مع إبقاء العمل بمسئولية عالية للحفاظ على الأمن والسلم الأهلي فيه، وفتح المجال للتنسيق مع باقي الفصائل ووكالة الأونروا والاتحاد الأوروبي لضمان تحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم لكل سكان القطاع.

٢) ستظل حركة حماس مع باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي تدعم التحركات السلمية على الحدود إلى أن تظهر بدائل وخيارات أفضل لتحريك القضية، وفك الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة.

وفي حال تعذرت المصالحة، ووصلت الأمور إلى طريق مسدود، فستكون هناك سيناريوهات أخرى أكثر صعوبة يمكن تخيلها ضمن حالة "التفكير فيما لا نرغب التفكير فيه"، وهي كالتالي:

٣) التنسيق مع مصر لترتيب أمر الجباية مع إسرائيل، بحيث تكون استحقاقات التجارة مع الاحتلال تعود إلى جهة إشراف وطنية في قطاع غزة؛ باعتبارها جزء من الاعتمادات المالية لميزانية القطاع.

٤) تأسيس مجلس تنسيق وطني يشارك فيه الجميع، للإشراف على الأوضاع الحياتية والمعيشية في قطاع غزة، وتوفير الدعم العربي والإسلامي، وجلب المساعدات الإغاثية والإنسانية الدولية بأشكالها المختلفة للقطاع.

باختصار: هذه السيناريوهات هي مجرد تأملات وسرحات خيال يفكر فيها البعض كـ"كممرات إجبارية ومُتطلب ضرورة"، فيما لو استمرت المصالحة تراوح في مكانها، وتطلب الأمر التحرك لعمل شيء لتجاوز هذه المرحلة، التي يكتنفها الغموض بسبب طغيان مشهد الانقسام الفلسطيني الحزين، والذي تبدو فيه سُبل التواصل مع الحكومة في رام الله قد تقطَّعت، مما يوجب علينا في "لحظة اضطرار" حسم حالة التردد بتبني أحد ما ذكرناه من سيناريوهات.