لو حوصرت سفارات أميركا لما فعلت ..!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

التاريخ لا تصنعه الدعوات ولا الرغبات والأماني، إنما ينبعث من غبار الأقدام وحركة الجيوش على الأرض، فلا ضمير للتاريخ بل أنه شريك العالم الفرنسي «لامارك» في نظرية البقاء للأقوى وليس للأفضل ....هكذا أقيمت الولايات المتحدة على إرث شعوب وقبائل تعرضت للقضاء على يد الغازي الإنجليزي، وهكذا ما زالت تمارس كل هذه الغطرسة منزوعة الدسم الإنساني ضدنا دون أن تحسب حسابا للعرب والمسلمين ...هذه هي الحقيقة التي تتجلى أمامنا بكل هذا الانكشاف ليوم غد.
كانت واضحة لمن يريد أن يرى بتعاقب الرؤساء الذين تجردوا من كل اتفاقيات حربين عالميتين دارتا على مسرح أوروبا. كانت أميركا تحصد نتائج المال وتلقي للآخرين بنتائج الأخلاق كي يتسلوا بها، كانت ساحات أوروبا تدفع فاتورة الدم وكان الأميركي يحمل صناديق الذهب،  ولسخرية القدر عندما انتقل الأميركي لمنطقتنا بعد النصف الثاني للقرن العشرين ما زلنا نحن من يدفع فواتير الدم والأرض، وما زال الأميركي يحمل صناديق المال .. التاريخ الماكر يعيد نفسه و»لامارك» يتجسد على شكل دم ولحم.
أي جنون هذا الذي يفعله راعي البقر الذي يطوي المسافات على حصان الظلم، يطلق النار بكل الاتجاهات، لأن البشر بالنسبة له ليسوا أكثر من كيس مال يعود به على ظهره من غزوات لم يُشف منها العقل الأميركي بعد، وهو يتحضر لشرعنة اختطاف عاصمتنا التاريخية مجرداً من وعي الحد الأدنى لإرث الحضارة الذي ينبت بين حجارتنا القديمة .. فالدولة التي نشأت على أنقاض حضارات أخرى ودمرتها ليست ابنة ثقافة التاريخ بل وريثة عصر القوة وانحدار القيم.
هذا الأميركي الذي يلوح بعصاه الغليظة في وجوه أدمنت الخوف حتى من ظلها لن يتوقف عن تجريف كل ما أنتجته البشرية من قوانين، ألم يطلق رجل «الكاوبوي» رصاصته الأخيرة على عملية تسوية كان هو راعيها الحصري والوحيد؟ من يفعل هذا غير من أصيب بجنون القوة بعيداً عن العدالة الإنسانية .. ها هو يفعلها محتقراً كل العرب والمسلمين بل أنه ينال من سلفه الذي كان يأخذهم على محمل الجد.
منذ ستة أشهر أعلن الرئيس ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وأعلن عن نقل سفارة الولايات المتحدة إليها .. قبل الإعلان كان يعرف أن لا ردود فعل جدية ستكون، ولا خسارة لواشنطن، ولا سفارة سيتم حصارها، ولا سفير سيتم طرده، ولا مظاهرة جدية ولا دولة عربية أو إسلامية ولا كل هؤلاء مجتمعين ستساوي ردة فعلهم جناح بعوضة، لذا قالت نيكي هايلي في اليوم التالي .. «لم تسقط السماء» وتلك الحقيقة الأكثر إيلاماً من القرار الأميركي الغاشم.
لو حوصرت سفارات الولايات المتحدة في جميع الدول العربية والإسلامية لتراجع الرئيس الأميركي فهو ماهر جدا في حسابات الربح والخسارة .. لو سقطت السماء على أميركا كما قالت هايلي لتراجع الرئيس .. لو غَبّرت الشعوب العربية والإسلامية أحذيتها في شوارع عواصمها لما استمرت هذه الغطرسة، فالولايات المتحدة تحسب مصالحها بدقة شديدة تجيد لعبة موازين القوى وتخشى الشعوب أكثر من حكامها، وتلك حقيقة، لكن تلك الشعوب لم تكن أبعد كثيرا من الحكام لتفرش بصمتها لنقل السفارة إلى قدسنا.
القدس الشرقية محتلة منذ نصف قرن، وقد مارس فيها المحتل كل هوايات الخرافة أمام كل الذين صدعونا بأن القدس عروس عروبتهم، لقد احتلها وطرد سكانها وألغى هويتها العربية وبنى المستوطنات وجعلها مدينة يهودية بامتياز .. لقد فعل خلال العقود الخمسة الماضية ما يمهد لنقل السفارة، لقد ضاعت القدس منذ زمن، ولم نسمع سوى النحيب والعويل من أمة لا تتوقف عن التغني بشعارات العزة والكرامة والشرف، وغير ذلك من مصطلحات هي على النقيض منها تماماً.
إن الصمت لا يصنع سياسة، والشكوى هي مادة الأقوياء للسخرية من الضعفاء والبَكّائين، والأرض فقط هي من يعيد للتاريخ بوصلته عندما ينحرف مساره او تتم رشوته، لذا فإن قلب الطاولة في وجه الجميع بات مطلوباً، وخصوصاً على رأس الرئيس الأميركي الذي يعرف معنى القوة وتجربة الرئيس الكوري الشمالي الذي سيلتقيه نموذج أمامنا .. إن في موجة احتجاجات غاضبة تملأ الشوارع والميادين ما يمكن أن تجعله يعيد كل حساباته، وهذا ممكن في الأوطان العربية والإسلامية.
غداً يوم فاصل في التاريخ، وليس من المعقول أن تبقى غزة وحدها تعلن التمرد، وإن كان هذا قدرها ودورها منذ الشقيري وياسر عرفات، ولكن لأن القدس والنكبة هي سؤال الحنين لكل فلسطيني شاء قدره أن يتعرض لهذه المظلمة التاريخية .. غزة المبادرة كعادتها تطلب ان يتحرك جميع الفلسطينيين في مجموعات بشرية تعيد صناعة تاريخنا على هذه الأرض التي طردونا منها لنعلن العودة مهما كلف الأمر، أن تتحرك الجموع حركة واحدة غداً من غزة للضفة والقدس ومناطق الـ 48 ولبنان وسورية والاردن، وكل هؤلاء الذين طردوا قبل سبعة عقود، ويحيون الذكرى الكئيبة منتظرين أن ينصفهم القانون الدولي والعدالة الإنسانية والضمير العالمي وكل تلك المسميات التي سقطت أمام معاناة شعب ظل مصلوباً على خشبة الرحيل لسبعة عقود.
يلسعنا الحنين في ذكرى النكبة، يتوحد العقل والقلب ويتحول العقل إلى حالة عاطفية تفقد اتزانها توقاً لوطن سرقوه حين غافلوا التاريخ، وعلينا أن نستعيده وقد أدمن هذا التاريخ السهر حد الجنون .. يندلق الحنين إلى قرى تنتظر أهلها، إلى شجرة التين ولوح الصبار وبيت الحمام والتنور وعبق الشعير، إلى حيفا ويافا وموجة تداعب طحلب مائها، وشواطئ تنتظر من يحمل ملامحها وتعد الأيام بعدد الموجات.
نعم، في ذكرى النكبة كما في كل نكبة، يصفعنا يُتْمُ الوطن، ويصفعنا أكبر هذا الحياد العربي القاتل، ويؤلمنا نحن المتعبين موتُ القيم التي دفع العالم ثمنها بملايين من أبنائه كي يعيد تعريف العدالة .. لقد تعبنا ونحن الممثل الوحيد على خشبة مسرح التراجيديا لسبعة عقود، دون أن يبكي المتفرجون حتى .. وفي النهاية يأتي رئيس مغامر ليهدي عاصمتنا للمحتل كقطعة شوكلاتة حتى بدون غلاف .. ما هذا؟ وأي عصر نعيشه؟