قصة «الثورة السورية» (2-2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في أقل من سنة، بدأت الثورة السورية تأخذ منحى آخر، منحى شديد العنف، قسم من الثوار السوريين تورط في دوامة العنف، وقسم آخر انكفأ وتراجع، بل وأخذ يفكر بالانسحاب كليا، والهجرة خارج البلاد..
وسرعان ما بدأ كل طرف يسحب الصفة الإنسانية عن خصمه، دون أن يدرك أنه بذلك يسحبها منه شخصياً قبل عدوه؛ الأمر الذي أدى إلى توحش كافة الأطراف، وقد رأينا مظاهر هذا التوحش في ممارسات الجماعات المتطرفة التي تحقد على خصمها بتطرف، تحقد حتى على جثته، فتمثّل بها، وتتلذذ بتعذيبها، تقتل بوحشية وبدافع العنف والانتقام والنزعة البدائية.. جثة الميت من المفترض أنها ليست عدوا لأحد، الجثة لها حرمتها، وقد غادرتها روح صاحبها وخلعت شروره منها، لكن الانحدار إلى هذا المستوى من الحضيض هو أكبر دليل على وحشية وهمجية الأطراف المتصارعة.
في أثناء ذلك، بدأت الجماعات المسلحة تتسلل من خارج البلاد؛ دخل تنظيم القاعدة، ثم انشقت عنه جبهة النصرة، ثم أتت داعش، وسيطرت على مساحات شاسعة من سورية والعراق، ثم جاء جيش الإسلام، وعشرات الجماعات الجهادية المتطرفة، وبقايا الجيش الحر، ومع كل هذه الفوضى الأمنية، ومع وجود آلاف المقاتلين من كل حدب وصوب، الذين لا علاقة لهم بالثورة السورية، ولا بمطالبها، وليست لديهم أي فكرة عن مشاكل السوريين واحتياجاتهم وتطلعاتهم، بل أنهم عبء على الثورة ودخلاء عليها، وقد حرفوها عن مسارها وشوهوا صورتها، وفرغوها من كل مضامينها الاجتماعية والسياسية، وأحالوها إلى عنف طائفي دموي عقيم، بلا أي مستقبل سوى مزيد من الدمار والتخريب؛ أمام هذا كله من الصعب جداً أن نجد في هذ المشهد المعقد ما يدعونا لأن نطلق تسمية "ثورة" على ما يحدث في سورية.  ما يحدث الآن هو موجات لا إنسانية من العنف الهمجي جعلت البلد تعيش سنوات من الجمر.
ما يحدث الآن أن الشعب السوري نفسه (وثورته) هو الضحية، فهو اللاجئ والمشرد والقتيل والجريح... وما دون ذلك وبعده عبارة عن "جهاد نكاح" تمارسه بكل خسة مجموعات من القتلة وأمراء الحرب والعصابات العابرة للحدود.. في مواجهة نظام طاغ لا يقل سوءاً عنهم.
ثورة الشعب السوري كانت تريد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد.. أما الجماعات "الجهادية" التي تطفلت على الثورة؛ فلها أهداف أخرى مختلفة كلياً: تريد إقامة دولة ثيوقراطية، وبحجة أنها تحكم بشرع الله (وهي في الحقيقة تحكم بشرع أميركا) ستنفذ المخطط الأميركي الإمبريالي؛ ستلغي الصفة الوطنية والنزعة القومية عن الدولة السورية، وستنزع عنها صفة الدولة المدنية، ستقضي على التعايش السلمي بين الطوائف، ستجعل من سورية قاعدة أميركية، ستقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل، ستجعل من سورية ممراً لأنابيب النفط والغاز القطري، وممراً لأنابيب المياه التركية إلى إسرائيل، ستكون تابعة لتركيا، وستسلم الأكراد لها.. ستقطع علاقاتها مع حزب الله، وستقدمه لقمة سائغة لإسرائيل، التي لن يكون في مواجهتها أية قوة ردع.. لتتفرد في سيادة الإقليم.
وطبعاً هذا لا يعفينا من السؤال عن مستقبل سورية في حال انتصار النظام وسحقه لكل أعدائه، عن طبيعة علاقاته بروسيا وإيران ومدى تبعيته لهما.
وإذا كانت تلك صورة متخيلة عن المستقبل، فإن الواقع بات أمامنا واضحاً.. النظام أوغل في القتل والتدمير، وإذا كان البعض يتفهم ضرورات استخدام القوة في مواجهة العصابات الإرهابية التي تريد تقويض النظام، وتدمير البلاد، بحجة أن أي دولة في العالم، بما فيها الدول الديمقراطية، تستخدم أقصى درجات القوة لمواجهة أعدائها؛ بيد أنني لا أستسيغ، ولا أتفهم قتل أي إنسان لأي سبب.. خاصة المدنيين الأبرياء.
وأيضا، الجماعات "الجهادية"؛ أوغلت في دم السوريين، في المناطق التي سيطرت عليها قدمت نماذج استبدادية بائسة، ومارست القمع والتنكيل، وتعسفت بالحكم، واستخدمت المدنيين دروعاً بشرية، هذا عدا عن سبي النساء وتجنيد الأطفال، وحملات التطهير العرقي، والهندسة الديمفرافية، التي كانت تتطلب التدمير وحملات الإعدام.. وتشريد المواطنين، ودفعهم للهجرة.. ولعل أخطر ممارستها ما فعلته في مخيم اليرموك.
مخيم اليرموك كان يضم قرابة النصف مليون لاجئ فلسطيني، اليوم، بقي فيه بضعة آلاف، وقد تم تجويعهم وإذلالهم ومحاصرتهم، وكل ذلك يأتي خدمة لمخطط  اسرائيلي لإنهاء حق العودة، وتذويب قضية اللاجئين. وهذا ما فعلته عن وعي كامل تلك العصابات الإجرامية، وبتواطؤ من النظام، التي ما زالت تمارس نفس المخطط في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
مع أن الحرب الأهلية السورية في مراحلها النهائية، وقد بات من شبه المؤكد أن النظام على وشك تسجيل انتصاره، إلا أنه من الصعب التنبؤ بنهاية الأزمة السورية، على الأقل في المدى المنظور، ومن الصعب توقع منتصر ومهزوم، لأن الحرب الأهلية تعني بكل بساطة أن الكل مهزوم..
في الصراعات الحضارية يكون الانتصار الحقيقي في الإصرار على الاحتفاظ بالجانب الإنساني والأخلاقي في المقاتل، والانتصار على وحشية المحتل، وعلى همجية المعتدي، وعلى ظلم الظالم.. فالإنسان المناضل يقاتل الأعداء لأنهم أعداء، وهذا سبب كاف، وليس لأنهم خنازير، وشياطين، وقتلاهم فطائس.. وليس لأنه يحقد عليهم.
ستنتهي الحرب، ولعل ذلك قريباً، وسيعود المقاتلون إلى بيوتهم، والمرتزقة إلى جحورهم، وبعد ذلك، سيعجز الجميع عن النظر في عيون أرملة، أو أم ثكلى، أو الإجابة على سؤال يتيم: لماذا قتلتم أبي؟ وسيعجزون عن الإجابة عن سؤال شاب وسيم، لماذا بترتم قدمي؟ وآخر: لماذا تركتموني أغرق في البحر؟ وعن سؤال طفلة فقدت بيتها، وجيرانها، ومجتمع فقد مستقبله.. بل وفقد وعيه في لحظة جنون دامت سبع سنين عجاف.. هذا إذا كان قد بقي للمتقاتلين بقايا ضمير..
أما جنرالات الحرب، فلهم الله، ومحكمة التاريخ، على جرائمهم التي اقترفوها وهم يرفعون زورا شعاراتهم الجميلة الخادعة..
ومع كل هذا الأسى، ستظل سورية قلعة العروبة، وقلبها النابض، ومنارة الإنسانية، كما كانت على مدى التاريخ..
وأختم بما كتبته الصديقة السورية نجاة عبد الصمد: "سورية التي كانت قبل هذه الحرب حلوة كدبس العنب، ستفيق مثلما هي في خاطر الدنيا، حلوة وزكية كدبس العنب".. بهذه الكلمات تعطينا الكاتبة جرعة أمل؛ حيث تستبشر بنهاية وشيكة لأيام الوجع السوري، لأنه حسب قولها: "الحرب لن تستمر إلى الأبد، ولن يدوم هذا الخراب".