يرتبط تاريخ القضية الفلسطينية منذ النكبة بسجل كبير من الانتهاكات والتجاوزات القانونية والأخلاقية، وسفك دم الأبرياء، أنتج المعاناة الإنسانية الأبرز في التاريخ المعاصر، أسهمت فيه معادلات القوى السياسية الدولية في تطويع القانون لصالح عصابات مارقة تمكنت بفعل تحيز هذه القوى في تأسيس دولة على أشلاء شعب مسالم ينتمي لحضارات أصيلة تشربتها تراب أرضه، وهوية وثقافة، وحلم بحياة أفضل كباقي شعوب الأرض.
ولم يشهد التاريخ السياسي المعاصر من قبل حالةً "إحلالية" استهدفت اقتلاع شعب بكل ما يملك من حضارة وتاريخ إنساني واجتماعي وسياسي، تؤكد ثقافته وتاريخه على حجم انتمائه للأرض، التي يشبهها وتشبهه، إضافة للمحيط الذي يتفاعل معه ويشاركه عناصر الثقافة الواحدة، والدم، والطموح ذاته، ليضيف انتماءه لأمته العربية والإسلامية معززات للهوية وانسجاماً إضافياً لحركة التاريخ ونواتجها الحضارية.
واستكمالاً للمؤامرة الدولية إزاء جريمة "الإحلال" تلك، فقد جرت عمليه زرع "هجين" لنبت شيطاني سام في الأرض رغماً عن أنف التاريخ وسيرورته، وبشكل يتناقض –ليس فقط مع حقيقة انتماء الشعب الفلسطيني لأرضه- بل مع هوية أمة بأسرها، تشطرها دولة الاحتلال "الهجينة" إلى نصفين بطريقة تمنع تحقيق مشروعها الوحدوي، وبناء كيانها المستقل سياسياً واقتصادياً.
وفي سبيل إنجاز المشروع الصهيوني لم تتورع عصابات الاحتلال عن تجاوز كافة الخطوط الحمراء، من قتل وتشريد وسلب للأرض وللموارد، والتنكيل بشعب أعزل، وحرمانه من العيش بسلام وكرامة على أرضه، في تجاهل واضح ومتعمد لكافة الشرائع والقوانين الدولية التي اتفق على أسسها وحيثياتها المجتمع الدولي بما يحويه من دول كبيرة وصغيرة، وحضارات وثقافات متنوعة، باعتبار أن هذه القوانين هي حالة تشريعية تنظم العلاقات بين الدول بعضها ببعض، وتحترم حقوقها، وإنسانية الشعوب أينما كانت، وفي أي وقت.
وواكبت جريمة إقامة دولة إسرائيل ارتكاب العديد من المجازر بشكل ممنهج ومخطط له، بغية تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، كمذبحة "بلد الشيخ" عام 1948، التي بلغت حصيلتها 600 شخص، غالبيتهم من الأطفال والنساء، عثر على جثامينهم داخل منازلهم، كما أن مجزرة "دير ياسين"، عام 1948، الشهيرة، عبرت عن مدى الاستخفاف بأرواح البشر، وما يسكن عقول وقلوب العصابات الصهيونية من إجرام وحقد دفين، فقد كان الأبرياء أهدافاً عشوائية لرماية أسلحتهم، ليسقط 360 شهيد من الشيوخ والنساء والأطفال، وتستكمل بعدها الجريمة بهدم منازل الضحايا من سكان البلدة.
واستمر الإجرام الصهيوني خلال تلك المرحلة بمزيد من المجازر التي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، كمجازر قرية "أبو شوشة"، والطنطورة، عام 1948، وقبية 1953، وقلقيلية، وكفر قاسم، وخان يونس عام 1956.
ولم ترتبط المجازر في العقلية التي تسيّر الاحتلال الصهيوني بضرورات المرحلة التي تقتضي تفريغ الأرض من السكان لإحلال مهاجرين يهود مكانهم، في بادئ الأمر خلال فترة إنشاء الدولة، بل أكدت توالي الأحداث بأنها طابع ومنهاج يميزها في شكل التعامل مع أبناء الأرض، حيث ارتكبت عصابات المتطرفين بحق الفلسطينيين المزيد من المذابح، كمذبحة المسجد الأقصى عام 1990، والحرم الإبراهيمي عام 1994، ومذبحة مخيم جنين عام 2002.
وما قمت بسرده من مجازر ليست الوحيدة في سلسلة الإجرام الصهيوني، وإن كانت أشهرها، فقد قامت عصابات كالهاجاناه والأرغون وشتيرن وإتسل، وغيرها، بسفك دماء الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال من أبناء فلسطين في الأعوام 1937، و1938، وحتى ما بعد فترة الإعلان عن قيام الدولة الصهيونية عام 1948، وقد قدرت أعداد الضحايا حينها بما يزيد عن 7 آلاف شخص.
ولا يمكن إجراء إحصاء دقيق حول أعداد المجازر الصهيونية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، فآلة القتل الإسرائيلية لم تكتف بدماء الفلسطيني المرابط على أرضه، بل طاردت الفلسطينيين في بقاع الأرض المختلفة، حيث لا تزال صور ضحايا مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982 ملتصقة في الذاكرة لشدة بشاعتها، حيث جثث الأطفال والنساء والشيوخ المنتفخة في الطرقات، بعدما بقيت لعدة أيام بسبب إغلاق القتلة لمداخل المخيمين حتى إتمام جريمتهم، وضمان إيقاع العدد الأكبر من الضحايا، وسرقة مقتنياتها الخاصة، والتمثيل بالجثث.
وبقيت الذهنية الإسرائيلية على حالها في الإبقاء على "شهيتها" للقتل والتدمير، وسياستها التي تستهتر بالإنسان الفلسطيني، حتى وإن كان متظاهراً سلمياً، حيث تعمدت قوات الاحتلال مواجهة رماة الحجارة في الانتفاضة التي اندلعت عام 1987 بالرصاص الحي، والمطاطي، وبأساليب إجرامية أخرى مبتكرة كتكسير عظام المتظاهرين، واستخدام قوات حرس الحدود لأساليب إجرامية مختلفة لقمع الانتفاضة.
أما في انتفاضة الأقصى (الثانية)، التي انطلقت عام 2000 بسبب أعمال الاغتيال والتنكيل وانتهاكات الاحتلال تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، فقد أطلقت سلطات الاحتلال يدها في الدم الفلسطيني، متذرعة بعسكرة الانتفاضة، ليسقط ما يزيد عن 4 آلاف شهيد، وأكثر من 38 ألف جريح.
وفي الانتفاضة الثالثة (انتفاضة القدس)، التي بدأت كموجة احتجاجات من شبان فلسطينيين رداً على الأعمال الإجرامية التي تمارسها سلطات الاحتلال، وجماعات المستوطنين المتطرفين، بحق الفلسطينيين، كان من أبرزها جريمة إحراق منزل عائلة الدوابشة في نابلس، والذي أودى بحياة غالبية أفراد العائلة، وإحراق محمد أبو خضير في القدس، والانتهاكات بحق الأسرى الذين أعلنوا إضراباً عن الطعام استمر لما يقرب الشهرين.
رافق هذه الأحداث انتهاكات إسرائيلية سافرة رصدت عدداً منها عدسات الكاميرات، ووسائل الإعلام المختلفة، تمثلت بقيام جنود الاحتلال بإعدامات ميدانية لشباب صغار بحجة محاولتهم القيام بعمليات طعن لجنود، وقد أثبتت الكاميرات زيف رواية العديد من محاولات الطعن، حيث أظهرت الصور اقتراف جنود الاحتلال جريمة القتل بدم بارد ضد شبان وشابات فلسطينيين لم يكن بحوزتهم أية أسلحة أو سكاكين، اتضح فيما بعد بأنهم لم يكونوا يعتزمون القيام بأية أعمال عنف.
وللحروب على غزة المحاصرة ما يدلل على نوازع الحقد والإجرام التي تسري في شرايين المحتل، فلم يكتف الاحتلال بتجويع مليوني إنسان من ساكني القطاع، خلال حصار لا أخلاقي، ولا قانوني، ما يزال مستمراً منذ 12 عام، ليصب نيران أسلحته الفتاكة على المدنيين في حروب تجاوز فيها الخطوط الحمراء كافة، وصفت بإجماع العديد من المنظمات الحقوقية بالإبادة الجماعية، سيما وأن هذه الحروب أفنت عائلات بأكملها ودفنتها تحت أنقاض منازلها، دون ذنب اقترفوه.
فقد استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية المتطورة المدنيين في حروبها الثلاث على القطاع في الأعوام (2008، 2012، 2014)، وأزهقت أرواح الآلاف منهم، ودمرت البنى التحتية المتهالكة أصلاً بفعل الحصار، ولم تميز بين مقاتل أو مدني، وقد سجلت الإحصاءات لدى العديد من المنظمات المعتمدة دولياً ما يفيد بأن غالبية الضحايا في الحروب الثلاث كانت من المدنيين "الشيوخ والأطفال والنساء والعجزة".
وفي المدى الزمني القريب جداً، يضيف سجل الاحتلال الإجرامي الأسود الآلاف من الضحايا المدنيين ممن شاركوا في مسيرة العودة في الذكرى السبعين للنكبة، نهار الاثنين 14 أيار / مايو 2018، لتحرمهم حقهم في التعبير السلمي عن احتجاجهم وهو يشاهدون جريمة سرقة عاصمتهم التاريخية المقدسة أمام أعينهم، خلال احتفالية افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، واستمرار الحصار الجائر على غزة، ومضي عشرات السنوات على سلب الحقوق، واحتلال الأرض وحرمان أصحابها من العودة إليها.
ولا يمكن إعطاء أية توصيفات أخرى لانتهاك الاحتلال من جديد القوانين الدولية، من خلال استهداف المدنيين العزل من السلاح، وآلاف المشاركين في المسيرة قرب الحد الفاصل بين قطاع غزة وباقي الأرض الفلسطينية المحتلة، سوى توصيف "شهية القتل" لدى دولة الاحتلال، التي يعززها مخزون هائل من الكراهية والعنصرية والحقد تجاه كل ما هو فلسطيني وعربي وإسلامي ومسيحي.
كما أن هذه الشهية "المفتوحة" للقتل تعبر عن رسوخ الأفكار الشيطانية في العقلية الصهيونية، والتي تتلخص بإنكار الآخر، وتضخم حالة الجبروت والطغيان في شخصية المحتل الإسرائيلي، لدرجة لم يعد يرى معها أحد سواه على وجه الأرض، وتنعدم المحظورات في سبيل تحقيق غاياته في الهيمنة والسيطرة وانتهاك حقوق الآخرين.