قبل الشَهْقة الأخيرة

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

 

لنا أن نتخيل حال السلطة الفلسطينية، عندما يسحب عباس شهقته الأخيرة، دون أن يتبعها زفير، تاركاً وراءه كل شيء على حاله: لا برلمان ولا مؤسسات ولا نائب لرئيس السلطة ولا أية حيثيات دستورية، ولا خط تواصل منهجي، اجتماعي وسياسي، بين أربعة أجزاء الشعب الفلسطيني: المَهاجر والضفة وغزة وأراضي 48.  

في هذه الحال، يصعب أن يُدعى أي إطار للاجتماع، للإعلان عن موت رئيس السلطة، وربما يتولى الحمد الله، باعتباره رئيس حكومة، الدعوة الى هكذا اجتماع، حتى وإن كانت حكومة هذا المأفون، لا تستند لأي مسوّغ دستوري وقانوني يُشرعن وجودها،  ما خلا مرسوم الميت المنتهية ولايته، قبل الشهقة الأخيرة بسنوات!

 أما "مركزية" الفقيد، التي اصطفاها في مؤتمر ملفق سمّاه عاماً وسابعاً لحركة فتح؛ فسيكون من الحكمة وحُسن التدابير ألا تُدعى لاجتماع عاجل، تحاشياً لاصطدام سريع بين أعضائها الطامحين الى الوراثة قبل التشييع. فسيدهم الراحل، لم يحسب حساب الفراغ الدستوري، ولا الفراغ الفجائي في مركز الرجل الذي يقرر كل شيء، علماً بأن المافيات وشبكات تجارة المخدرات، تحسب حساب الموت مسبقاً، إذ تضع كل واحدة لنفسها تراتبية سلطوية، وتتوافق على مجلس يقرر ويحسم، تحسباً للمساس ببنيتها ودفعاً للخطر الوجودي. فالفراغ يفتح للخصوم مجال ملئه، فما بالنا عندما يكون العدو، هو الذي أصبح في زمن عباس الطرف الذي يملاً، بل هو ــ بالمحصلة ــ صانع الفراع أصلاً!

الذاهب بعمله الى لقاء رب العالمين؛ لم يفعل ما فعلته المافيات لكي تحافظ على مشروعاتها الشائنة. كان مطلوباً منه أن يحافظ على الأمانة، وعلى المنظومة الوطنية الكفاحية، التي قامت بتضحيات قوافل متتابعة من الشهداء. لكنه فعل كل ذميمة، لكي يندثر الوطنيون وتُمحى ثقافتهم ويخبو اعتزازهم بكفاح الأجيال، بل لكي يندثر الفلسطينون من حيث كونهم مجتمعاً متجانساً،  ولكي ينهار الكيان السياسي، الذي  يحفظ للشعب الفلسطيني حكاية مظلمته التاريخية، وللأجيال ثقافتها، وللكبار مآثرهم وسعيهم، ويحفظ للشعب طموحاته الى التحقق الحضاري على أرض وطنه حراً مستقلاً!   

حيرة الآخرين، المستريحين في التعاطي مع عباس باعتباره عنوان الشرعية، ستكون أكبر. فهؤلاء يعرفون منذ الآن، أن الشرعية التي يزعمون، هي التي فتكت بكل شيء شرعي وهي التي أطاحت القانون وكرست البلطجة، حتى أصبح الموالون لها أنفسهم، مذعورين من صعوبة استعادة النصاب والعثور من جديد، على شرعيّة ضيعها سيدهم الميت، عندما أراد وأصر في حياته على اختزال تمثيل الفلسطينيين في نفسه هو، حتى الشهقة الأخيرة التي لم يتبعها زفير!

في يوم موته، ما الذي سيفعله العائمون على سطح ماء الحوض العباسي الضيق، واهمين أنهم يعومون على سطح بحيرة فيكتوريا، أعظم البحيرات الاستوائية في العالم. فهؤلاء سوف يصطدمون بالحقيقة قبل التشييع: الحوض أضيق من سرير، والمياه من تحتهم آسنة وملوثة. أما العوم طويلاً، على سطح ماء الراحل العزيز وفي حياته ومساحته، فلم يكن حجة للعائمين، وإنما حجة ثقيلة عليهم!

هذا ما ينبغي على الفلسطينيين، عائمين وغير عائمين، أن يحسبوا حسابه، قبل أن يلفظ عباس الشهقة الأخيرة التي لا يتبعها زفير!