لم تفلح التحركات الدبلوماسية والجولات المكوكية التي أجراها وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، من تسويق وإنجاح المبادرة الفرنسية الخاصة بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والتي كان مقدراً لها أن تعرض في وقت لاحق على مجلس الأمن الدولي.
فرنسا التي حاولت الدخول على خط التسوية السلمية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بتقديم صيغ ومبادرات مختلفة، واجهت صعوبات وضغوطات كبيرة، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي ترفض أن تتدخل أي دولة فيما تقوم به واشنطن، أو من قبل إسرائيل التي تواظب على احتكار ملف الصراع واعتباره ثنائياً لا يحتمل أي تدخلات أو وساطات خارجية.
فابيوس الذي طار إلى القاهرة وعمان لتسويق المبادرة الفرنسية وحشد تأييد عربي لها، ومن ثم مناقشتها في الضفة الغربية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وكذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، هذا الـ"فابيوس" لم يتمكن من الحصول على أجوبة ترضيه وتنجح مساعيه.
بعد هذه اللقاءات التي أجراها بعدة أيام، صرح وزير الخارجية الفرنسي من مقر الأمم المتحدة، بأن المبادرة الفرنسية بحاجة إلى جسم داعم أوسع من الرباعية الدولية، قائلاً: إنها بحاجة إلى دعم الدول الأوروبية والعربية أيضاً.
من تصريحات فابيوس نعثر على أسباب تراجع المبادرة الفرنسية، ذلك أنه لم يعلن رسمياً عن ضغوطات مارستها واشنطن وتل أبيب على باريس من أجل وقف مبادرتها، لكن أقوال الرجل تحمل هذه الدلالات، خصوصاً حينما يلمّح بأن المبادرة الفرنسية بحاجة إلى قوة مؤثرة تحركها.
كلنا يعلم أن الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم، هي الجسم الدولي الأهم الذي يمكنه تحريك وتنفيذ المبادرة الفرنسية، وأن الأجسام الأخرى مثل الأمم المتحدة والرباعية الدولية، غير قادرة على فعل شيء بدون تعليمات وموافقة السيد الأميركي.
تراجع المبادرة الفرنسية يأتي من رغبة أميركية في تعطيلها، خصوصاً حين يصل الأمر إلى فكرة عرضها على مجلس الأمن الدولي، ويأتي التدخل الأميركي من جانبين، الأول يتعلق بانشغال واشنطن في الملف النووي الإيراني، والثاني يتصل برغبة الأولى في عدم تدويل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
أضف إلى ذلك، إن فابيوس ربما لاحظ أن الدول الأوروبية منشغلة الآن في موضوع علاقاتها مع روسيا على خلفية الصراع حول أوكرانيا والدعوات الأميركية لفرض عقوبات على موسكو، بالإضافة إلى الاهتمام الأوروبي بكيفية معالجة أزمة الديون اليونانية وإبقائها عضواً في منطقة اليورو.
أما بالنسبة للوضع العربي، فلا يبدو أنه متماسك بالدرجة التي تجعله يقف بقوة خلف المبادرة الفرنسية ومواجهة الضغوطات الأميركية، ولعل وزير الخارجية الفرنسي قد لمس هذا الموقف، علماً بأن أغلب الدول العربية منشغلة في أوضاعها الداخلية.
المبادرة الفرنسية كانت قد طرحت على قاعدة تحريك العملية السلمية والانتقال من مربع الجمود القاتل إلى الفعل الدبلوماسي، مع عدم إمكانية عزل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عن الوضع الإقليمي، والتخوفات الأوروبية من احتمال أن يأتي تنظيم "داعش" إلى فلسطين ويخلط الأوراق ببعضها.
وفي حين تتحدث المبادرة عن مفاوضات برعاية دولية أوروبية عربية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لمدة عامين كحد أقصى للاتفاق بين الطرفين، يستتبعها نقل الملف إلى الأمم المتحدة من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وعلى أن تكون القدس عاصمة الدولتين، إلا أنها لم تحظ لا بموافقة ولا ترحيب إسرائيلي، وكذلك الحال بالنسبة لبعض الفصائل الفلسطينية وعلى رأسهم "حماس".
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يريد مبادرات وليس معنياً الآن في تحريك مفاوضات مع الطرف الفلسطيني، طالما أنه مستفيد من الجمود في عملية السلام، ومستفيد أيضاً من الانقسام الفلسطيني الداخلي، وبالتالي يفعل ما يريد ويوجه الاستيطان نحو أي رقعة فلسطينية.
هذا الذي جعل نتنياهو يقول لا للمبادرة الفرنسية، فهو الذي اختلف مع الإدارة الأميركية حول تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإنه لن يجد صعوبة في رفض المبادرة الفرنسية، لكونه أيضاً متأكد بأنه يتمتع بموقف قوي يجعله يرفض المبادرة جملةً وتفصيلاً.
إن آخر شيء يرغب به نتنياهو هو السماح بدخول أطراف دولية للمراقبة أو الإشراف على ملف الصراع الشرق الأوسطي، أضف إلى ذلك، إنه لا يريد دولة فلسطينية مستقلة، وهو كان قد رفضها أصلاً ويعمل بكل قوة من أجل عدم حصولها على الأرض.
ثم إن شخصاً مثل نتنياهو بالتأكيد يستثمر حالة الانقسام الفلسطيني لتمرير مشروعاته العنصرية، ومسرور جداً للوضع العربي المزري، وهو اليوم مستعد للدخول في تهدئة طويلة الأمد مع "حماس"، حتى يحافظ على بقاء الانقسام الفلسطيني لأطول نفس ممكن.
بعد كل ذلك، يأتي مصدر سياسي إسرائيلي ليؤكد بأن المبادرة الفرنسية لمجلس الأمن لم تعد حاضرة على جدول الأعمال، وأن التهديد السياسي قد زال على تل أبيب، على خلفية ما أحاله إلى النقاشات الأميركية- الإسرائيلية التي خلصت إلى أن تلك المبادرة قد لا تمر بسلام على مجلس الأمن.
أيضاً تحدث وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي عن تراجع المبادرة الفرنسية، مقابل أفكار تتعلق بتشكيل لجنة مواكبة ومتابعة لدعم المفاوضات السياسية، وشتان بين الأفكار التي تضمنتها المبادرة الأولى، وما يجري حديثه عن المبادرة الثانية.
ربما لن تكون هناك أفكار فرنسية جديدة في الوقت الحالي، وما جرى من تبدل فيها قد جاء حفاظاً على ماء وجه فرنسا التي حاولت أن تضطلع على دور مهم في الشرق الأوسط، وسط انشغال الولايات المتحدة في التحول إلى آسيا وإيجاد موطئ قدم هناك.
ولعل هذا التراجع الفرنسي يقدم مؤشرات على عدم أولوية ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في الوقت الحالي، وسط أحداث دولية صخبة تتجاوز في أهميتها هذا الصراع، وأكثر من يستفيد من هذا الجمود هو إسرائيل التي تسمن المستوطنات في الضفة وتغير من معالم القدس بوتيرة متسارعة في الطريق إلى تهويدها