الإنسان أساس التنمية .. لنبدأ من هنا

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

عندما يشتعل النقاش في فلسطين حول الإدارة العامة والأداء وإدارة الشأن العام يتسلح المسؤول فورا بالتجربة السنغافورية ويذهب بنا إلى سنغافورة ليحدثنا عن نجاحاتهم وسياستهم في الحد من اقتناء السيارات وتدوير الوظائف وأشياء من هذا العيار، وكأننا نحن، المواطنين، لا نعرف شيئا ولا نقدر تلك الجهود التي تبذل في رصد التجربة السنغافورية وكأننا أعداء التنمية والتحديث والتطور.
وعادة نتبع في الإدارة العامة ذات الخطوات وتصبح لدينا طبقة وظيفية تحتكر موضوع المؤتمرات والورشات والاجتماعات مقابل مئة وخمسين دولارا يوميا من خزينة الوطن ليعودوا ويحدثوا الناس الذين يطالبون بتعبيد مدخل قريتهم بعد ان عزلها الطريق الالتفافي العريض للمستوطنين، أو يطالبون بمضخة بدلا من المعطوبة لكي يعالجوا مشكلة المياه لديهم، أو عيادة صحية تساعد لحين الوصول الى المشفى في المدينة، فينبري المسؤول بالحديث عن النظام والالتزام في السويد يوم كان هناك، وعن التعليم في فنلندا والنظام العصري، وعن القطار السريع في باريس وكيف حل أزمة المواصلات، ويصمت للحظة ومن ثم يحدثهم عن تعب السفر وهمه، ويطلق العبارة المشهورة: طلبكم قيد الدراسة ضمن الأولويات لحين توفر البند المالي، انتم تعرفون الوضع احسن منا مطلوب منا ثمن سياسي.
أنفقت آلاف الدولارات على دورات وبرامج طويلة الأمد للتدريب على قضايا معاصرة تتمثل بدراسات مستقبلية ووضع السيناريوهات ولا جديد، وفجأة نعود للتغني بها من جديد بوحي من تجارب عالمية وننسى المال الذي انفق على الفئة العليا للتدريب عليها، وكتبت في التدريب سيناريوهات.
يتفنن الناس في الحديث عن تدوير الوظائف وضخ دماء جديدة، وفعلا تزور بعض المؤسسات لتجد تكرارا مملا لذات المشهد، فالدم الجديد الذي ضخ تفتح نقاشا معه او معها وفجأة يصبح صاحب مبادرة لم يتمكن منها الذين أسسوا، فتصدر إحدى الجامعات الفلسطينية موقفا مفاده ان ما تقومون به ليس الأول فقد نظمنا الأول قبل خمسة أعوام .. ولكن البركة في الدماء الجديدة التي تضخ.
في زيارة لإحدى المؤسسات كانت عملية نقل تتم لمكتب موظف رئيسي في الإدارة التنفيذية، طرقت باب المكتب فكان مغلقا بإحكام فقيل لنا: نقلوه الى طابق آخر. ذهبت صوبه فإذا بأوراقه تتناثر في تلك الزاوية البعيدة التي اطلق عليها مكتب، ذهبت لكبير المؤسسة وقلت له: هذا إذلال وقهر ولا علاقة له بالإدارة ولا تصويب الأوضاع، حسب رأيي بتواضع أمامكم القضاء وأمامكم هيئة مكافحة الفساد. ان كان سببا في بدء انهيار المؤسسة التي تقودها وغير ذلك ليس بينك وبينه إلا ما نص عليه القانون، ولكن شيئا لم يحدث رغم ان الرجل الثاني في المسؤولية لا زال يعمل على تقييم الأداء ورسم بطاقات الوصف الوظيفي وتقسيم العمل والتخصص إلا أن الأمر غير الخاضع للنقاش هو استهداف الناس للقفز عن استحقاقات الإدارة العامة، ونخشى ان تغلف تلك أيضا بالتجربة النيويوركية اقترانا بنيويورك.
جزء من الإدارة العامة والإصلاح الإداري موقع القطاع الخاص وطبيعة علاقته مع الحكومة وكيف تجسد قضايا الشراكة ومن هو القطاع الخاص الشريك ومن هو خارج هذه الشراكة، ضمن جهد منظم عقدت جلسات الحوار بين القطاع العام والخاص ومن ثم طوي الملف وعندما نوقش مجددا على هامش المؤتمر الاقتصادي الذي نظمه معهد "ماس" بات التعليق "ليس حوارا لأن الحوار بين طرفين بل هي شراكة"، المهم لم يعد هناك إلا لقاءات غير منتظمة مع الحكومة وعندما نعقد اجتماعا كجمعية حماية المستهلك حول تنظيم قطاع الاتصالات، تنظيم صناعة المعارض، قطاع الإسكان والتطوير العقاري، نجد أن كلا يطرح موقفه من القطاع الخاص وكأنه يطرحه للمرة الأولى وكأن المسؤول الحكومي يسمعه للمرة الأولى، هل هذا ما يحدث في سنغافورة او باريس او هولندا.
فجأة نكتشف أننا اخطأنا في فتح باب الاستيراد على مصرعيه للمركبات المستعملة ونريد تصويب الوضع ويصبح هؤلاء عثرة في طريق تصويب الوضع، نتابع مشروعا لتنظيم قطاع النقل بالحافلات مع دول مانحة ونكتشف قبل خمسة أعوام ويزيد ان معضلة الحافلات وملكيتها في فلسطين غير واضحة ومشتتة، ونكتشف أننا زدنا عدد رخص المركبات العمومي على الخطوط الخارجية فأين نذهب به ونحن نطور الحافلات، يتطور العالم باتجاه النقل الذكي وفي فلسطين نحارب تطبيق "كريم" استنادا لقانون المرور وكأن التطبيقات الذكية والنقل الذكي غير قانوني وبات محصورا بـ"كريم" فقط وليس نظاما متكاملا ييسر ولا يعسر.
حالة من الاستنفار تدور في المؤسسة الحكومية وإذا بالأمر يتعلق بورشة عمل مدعومة تتعلق بسبل تنظيم العلاقة بين الجهات المتشاركة في أعمال الحفر والشبك على الطرق، كيف تضع جدولا للعمل بحيث لا تؤثر على عمل الأخرى ولا تعمل في الطريق بعد إنجاز الأخرى، عمل جديد، نحفر الطريق معا ونطمه معا، سبحان الله حتى هذا يحتاج الى تدريب وبناء كوادر وخبراء وقاعات وفنادق!!! أليس بالإمكان توقيع مذكرة تفاهم والانطلاق صوب العمل.
شاركت في عشرات الاجتماعات مع القطاع الزراعي الفلسطيني عبر الاتحاد العام للفلاحين واتحاد المزارعين ومع قطاعات زراعية بعينها في التمور والأعشاب الطبية والخضار وفي جميعها تسمع ذات الملاحظة جوهرها غياب دور مؤثر لوزارة الزراعة وعندما تتداخل في بعض الجوانب وزارة الاقتصاد الوطني أيضا، سواء من حيث حماية المزارع وحماية المحاصيل الزراعية ومنع المضاربة غير العادلة من المحاصيل الإسرائيلية في ذات الموسم ورقابة الأسواق المركزية، والتركيز على الجودة في القطاع الزراعي، فتشعر ان القطاع الزراعي الخاص والتعاوني في واد واستجابة الحكومة ليست في مستوى احتياجات وأولويات القطاع الزراعي المرتبط في الأرض ومصادر المياه والصمود والثبات.
اليوم، بات ملحا بناء علاقة شراكة استراتيجية مع الجامعات الفلسطينية لتصميم برامج مؤهلة للنهوض بالإدارة العامة والسياسات العامة في فلسطين وعدم الهروب صوب تجارب أخرى فقط لمجرد الاستعراض او تعويض الضعف في الأداء بورقة تين مفادها: انظر ماذا يفعلون في العالم، باختصار الإنسان جوهر التنمية وأساس التنمية وبالتالي لنبدأ من هنا وعلينا إلا نعيد اختراع العجلة، نعم لم يعد الوقت يسعف ولكن لا زال هناك إمكانية.
اليوم، بات ملحا تطوير العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع الأهلي التي تحمل كتفا مع الحكومة والتي تمثل شريكا ليس إلا.