بوح واعترافات شخصية .. «التروي» (3 من 4)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في نهاية التسعينات، عكفتُ على مدى أشهر متواصلة على تأليف كتاب، في موضوع طالما شغل فكري، وأرهقني بالأسئلة؛ أسميته بداية «نقد العقل العربي»، ثم تواضعتُ قليلا حين أدركت صعوبة ذلك، فصار عنوانه: «محاولة في نقد المجتمع العربي»، كتبتُ مئات الصفحات، مستعينا بعشرات المراجع.. أكوام من الورق بخط اليد، صار همّي طباعتها، وعلى مدى أسابيع من الطباعة، كنت أكتشف بعض الأخطاء، فأعدلها، ولما انتهيت، راسلت بعض دور النشر دون استجابة، حزنت، فقد كنت أحسب أن هذا الكتاب سيغير من المشهد العربي، سينتقل بوعي المجتمع إلى مرحلة متقدمة، وأن واجبي الوطني يقتضي مني العمل على نشره وتوزيعه.. ومع الوقت أدركت أنه مجرد كتاب من بين مئات الكتب التي بالتأكيد هي أفضل وأقوى منه.. ركنته جانبا، وصرت بين الحين والآخر أعيد قراءته، أعدل بعض التعبيرات، أزيد جملة هنا، وأحذف جملة من هناك.. ألغي فصلا كاملا، وأضيف فصلا جديدا، أعيد تبويب الفصول كلها.. وفي كل مرة أكتشف أن شيئاً ما ينقصه.. مضى حوالي عشرين عاما على إعداد هذا الكتاب، وما زلت للآن أعيد قراءته، وأعدل فيه، وأنتظر اكتمال الفكرة، ونضوجها، باختصار: ما زلت خائفا من عرضه على الملأ.. ما زلت غير واثق من صحة ودقة ما فيه.
ومثل هذا الكتاب، بحوزتي خمسة كتب أخرى، تبحث في مواضيع نشأة الكون والوجود والحياة والطبيعة، وفي مجالات أخرى تؤرقني.. هي أيضا تقنيا جاهزة للنشر، لكني متردد، وخائف، وأنتظر الوقت المناسب، فما زلت أراجعها باستمرار، وفي كل مرة أكتشف أنها بحاجة لمزيد من الإنضاج والتروي.. أول كتاب نجا من قائمة الانتظار الطويل «فلسطين في الأسر».. إذ أني كتبت مقدمته ومادته الأساسية قبل ثلاثة وعشرين عاما من نشره، حينها طبعته لي «خلود» على الآلة الكاتبة، ونحن في فترة الخطوبة، وبعدها عدلت عليه مرات ومرات، إلى أن رضيت عنه نسبيا.. لكني تجرأت على إصدار ستة كتب (وستة أخرى بالاشتراك مع باحثين آخرين).. بيد أني بعد كتابي الأول، الذي كان مليئا بالأخطاء اللغوية والنحوية، صرت أعرض مخطوطة الكتاب قبل نشرها على عدد من النقاد والمدققين والأدباء، فآخذ بنصائحهم، وتوجيهاتهم وانتقاداتهم.
تأليف الكتاب تجربة مدهشة، تشبه ولادة طفل.. قد يستغرق سنين طويلة من البحث والكتابة والحذف والإضافة، ستظن بعد ذلك كله أنه مكتمل، ثم تكتشف أنه مليء بالأخطاء، وأنه من الممكن صياغته على نحو أفضل.. لذلك تظل مخطوطات كتبي على قائمة الانتظار، مع حلم شبه دائم بطباعتها، أتخيل الكتاب بخوفٍ شديد وهو بين يدي قارئ معارض يشتمني، أو بفرحٍ وحبور مع قارئ معجب به.. في كل مرة أصدرت فيها كتابا، شعرت بنفس الفرح، وبنفس القلق والخوف.
أحتفظ بأرشيف ورقي لكل ما نشرته في الصحافة المطبوعة، وأرشيف إلكتروني لكل ما كتبت.. أراجعه من حين لآخر، فأجد ما كتبته قبل سنوات بعيدة ساذجا، سطحيا؛ عبارات مطروقة، أحكام نهائية، جمل إنشائية، شعارات، وتكرار لاستخدام المضاف والمضاف إليه.. أشعر بسعادة خفية أمام هذه الاكتشافات، خاصة مع رصد التطور والتغيير في الأسلوب، مع تناقص تدريجي لتلك الأخطاء مقارنة بالكتابات الأحدث.. ما ساعدني في هذا إلهام «خلود» وأفكارها، وانتقاداتها الدائمة لي، ونصائح أصدقاء أعزاء.. «نجاة عبد الصمد»، التي تقرأ مخطوطاتي سطرا سطرا بعين الناقد، «زياد خداش» الذي علمني كيف أقتل أحبائي، أي كيف أتخلص من الجمل الجميلة، التي لا تأتي في موضعها.. «فارس سباعنة» الذي ساعدني على التخلص من العبارات الدرويشية، «عماد الأصفر» الذي علمني كيف أبث الحياة والحركة في مقالاتي.
حين نشرت أول دراسة بحثية، وكانت في مجلة « شؤون فلسطينية»، شعرت بسعادة ودهشة البدايات.. أخبرني «سميح شبيب» أن العدد صدر، ولي مكافأة مالية (350$).. وللمرة الأولى أتقاضى أجرا على كتابتي، سيشجعني ذلك على النشر في مجلات أخرى.. كان «أحمد عزم» رئيس تحرير مجلة «آفاق المستقبل «الإماراتية، طلب مني إجراء مقابلة مع رئيس الوزراء سلام فياض، بعدها، صرت أكتب بصورة منتظمة، وفي كل مرة يعيد لي صديقي «أحمد» موضوعي مع تعليقات وتصويبات تشرح لي الفرق بين المقال والدراسة، بين الجريدة والمجلة، كيف أكون موضوعيا، بعاطفة أقل وعقلانية أكثر، كيف أتحكم بمشاعري فأكتب دون تصنيفات ولا أحكام، ولا اتهامات دون دليل.. بعدها نشرت في مجلات عربية وفلسطينية أخرى، حتى تجاوزت الستين دراسة بحثية في مجالات مختلفة.   
الحب، هو المحرض الأول للكتابة.. هذا رأيي، وهذا ما حدث معي.. الحب، ينبوع من المشاعر المجنونة تغمر القلب، ثم تفيض خارجا، وبالتالي، لا بد من سكبها على الورق.. كانت «خلود»، ومنذ بدايات قصتنا، ملهمتي ومحرضتي على الكتابة.. في كل مناسبة، أكتب لها، أنقل مشاعري حرفيا، أبث أشواقي، أصور نيران الحنين المضطرمة في صدري حين تغيب، وجنان العشق حين تجيء.. أكتب لها ما يليق بحبنا الكبير.. وجدت ضالتي بالنثر.. فأعددت كتابا خاصا سيحمل عنوان «حين يخضرّ الكلام».. وسأنتظر الوقت المناسب لنشره.
اخترت القصة القصيرة، لأني رغبت أن أقول على لسان شخوصها ما عجزت عن قوله في الواقع، لأنها مكّنتني من الغوص في عالمي الجواني، لأُخرج ما فيه، لأن المقالة، والدراسة البحثية لا تحتملان في بعض الأحيان كل ما يعتمل في دواخلي.. رغبت من خلال القصة أن أدون شهادتي المتواضعة عن الظلم، وأن أحكي عن ليالينا الحزينة، عن قلقنا المشروع، عن سنواتنا العجاف، عن الخوف الساكن فينا، والصرخات التي تدوي في أعماقنا وندفنها في تجاويف الصدر قبل أن يسمعها أحد، عن الناس المهمشين، والمنسيين، الذين لا يزورهم إلا الريح الزمهرير.. الذين لا يحفل بهم أحد، لأنهم فقراء.. للأسرى القابعين في زنازين العتمة، للأطفال الذين شربوا الخوف وأكلوا القهر في صراعاتنا الغبية، للنساء اللواتي قُتلن ظلما، وعشن ظلما.. للمسنّين الذين يمضون الليالي الطويلة وهم ينتظرون أحدا يطرق عليهم باب الوحدة، أو حتى رنة هاتف.. لكل هؤلاء كتبت ثلاث مجموعات قصص قصيرة، فقط لكي أقول لهم: ما أجملكم.