«صناعة المواطن اليهودي»

547831527593241.jpg
حجم الخط

 

لا ينكر كثيرون من الصهاينة أن مشروعهم الاستيطاني في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر، أضحى قاب قوسين من مواجهة إشكالية الشح السكاني من اليهود، قياساً بأصحاب البلد الحقيقيين من الفلسطينيين العرب. لكن التغلب على هذه الإشكالية يمثل أحد الهواجس، التي لا تكاد تغادر العقل الصهيوني داخل إسرائيل وخارجها على مدار الساعة. قبل عامين أوصت لجنة رسمية، عيّنها وزير التربية والتعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت رئيس «حزب البيت اليهودي»، بالبحث عن مجموعات سكانية في العالم تشكل قاعدة للتهويد وزيادة عدد اليهود وتقريبهم من المشروع الصهيوني وإسرائيل. وزعمت هذه اللجنة أن «ثمة ما لا يقل عن 60 مليون شخص ممن لهم علاقة ما باليهودية وإسرائيل؛ وهم ينحدرون من أحفاد اليهود المضطهدين ومن مجموعات بشرية أخرى ذات علاقة بالشعب اليهودي؛ لكنهم لا يعلنون ذلك أو حتى لا يعرفون ذلك». في هذا السياق، أوصت اللجنة بوضع برنامج حكومي للتقرب من هذه الجماعات وبث الدعاية الصهيونية بينهم، والعمل على تهجير بعضهم إلى إسرائيل لغرض تهويدهم، بينما يشكل الباقون قواعد شعبية مؤيدة لإسرائيل في عوالمهم الخارجية. مؤدى ذلك أن الفقه الصهيوني؛ الذي لفّق استحلال فلسطين لليهود وأسطورة أرض إسرائيل التوراتية، ونظّر لضرورة إعادة ملك داود وبناء هيكل سليمان، وأجاز بين يدي هذه الرواية المغشوشة إهراق شلالات من الدماء، لن يعجز عن ابتداع وصفات يعالج بها قصور عدته البشرية من اليهود تحديداً. وما تقرير لجنة بينيت سوى أحد الاجتهادات المعروضة للتداول؛ وخلاصته أنه إذا لم يكن هناك يهود حقيقيون، فلا بأس في اصطناعهم اصطناعاً. وأغلب الظن أنه كلما اقتربت لحظة الصدام الصهيوني مع حقيقة تفوق أعداد السكان الأصليين على الغزاة اليهود، في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر، سوف تتوالد الحلول الصهيونية للتعامل مع هذه المعضلة، حتى لو بلغ الأمر حدّ التضحية بالشروط الصارمة للهوية اليهودية، لمصلحة الارتقاء بأولوية المحدد الصهيوني للمواطنة الإسرائيلية؛ الذي يعد أكثر مرونة وفضفاضية.

بين يدي إنشاء الدولة الصهيونية وتقعيدها في الرحاب الفلسطينية والإقليمية والدولية، جرى إعداد موجودات ومعطيات مادية منظورة ومعنوية غير منظورة، لتسويغ ما يصعب إن لم يستحل تسويغه من مبررات الحياة والديمومة. وليس بلا دلالة على الغلو في هذا الباب، ما يقال عن نقل بعض العظام البشرية النخرة، من أماكن إلى أخرى في فلسطين التاريخية، توظيفاً لرفات الأموات في إثبات الروايات التاريخية التي يبتدعها الأحياء، خصوصاً في زهرة المدائن. نفهم من ذلك أن إسرائيل قد تتساهل وتتوسع مستقبلاً في تطبيق قانون العودة، بما يتيح إضفاء المواطنة على مَن تتوافر فيهم القناعة بالفكرة الصهيونية والحماسة لأهدافها، جنباً إلى جنب مع من يتوافر فيهم شرط الديانة اليهودية. والواقع أن مؤشرات هذا التحول النوعي موجودة منذ زهاء العقدين؛ ومن تجلياتها استقبال أكثر من 300 ألف مهاجر من مجتمعات آسيا الوسطى والاتحاد السوفياتي سابقاً، على رغم شكوك صناع القرار الإسرائيلي في صحة انتمائهم لليهود واليهودية.

المدهش هنا، أن المخاوف من التفوق العددي للفلسطينيين، أعمت أعين المسؤولين الإسرائيليين عن حقيقة أن دولتهم؛ بعد سبعين عاماً من قيامها، لا تضم بالكاد سوى أقل من نصف اليهود المتيقن من يهوديتهم. فما الذي يدعوهم للتنقيب عن حلول شبه خيالية، كتهويد غير اليهود، بينما لم يستنفدوا بعد استجلاب اليهود الحقيقيين؟

لا تفسير لهذا العوار العقيدي والسلوكي غير استشعار الفشل في إقناع مخزون اليهود، الأصلاء جدلاً، في الهجرة إلى «أرض الميعاد». وهذا لا ينفي أن هؤلاء اليهود المتمترسين في مواطنهم الأم، ومعظمهم في الولايات المتحدة، ممولون كبار لإسرائيل، وبعضهم يمثل مصدراً لا مقطوعاً ولا ممنوعاً لدعم الاستيطان والمستوطنين في فلسطين المحتلة. وعليه، يمكن الزعم بأن الاقتناع بالصهيونية ومشروعها الاستيطاني شيء، والالتحاق عضوياً بهذا الكيان شيء آخر.

وجود نصف يهود العالم خارج إسرائيل، وفشل كل محاولات استقطابهم نحو بديل الهجرة إليها، يثير علامات استفهام أمام احتمال نجاح مخطط صهينة غير اليهود وتهجيرهم إلى إسرائيل ثم تهويدهم فيها. لكن هذا الاستشراف لا يحول دون افتراض اللجوء إلى طرق التفافية أخرى، كاستغلال حاجة بعض الجماعات المعوزة والفقيرة والمهمشة في بعض المجتمعات، وإغرائها بالوعود المشرقة تمهيداً لاستدراجها للحوزة الصهيونية ثم الدفع بها إلى إسرائيل، تنفيذاً لخطة التسمين السكاني المستهدفة. ونحسب أن شرائح المهاجرين غير الشرعيين داخل إسرائيل راهناً، تبدو مؤهلة لتطبيق هذا السيناريو بسهولة ويسر. في حالة كهذه، قد تثور عقبات كأداء، أهمها تعنت قوى المتدينين المتشددين والحريديم، المتمسكين بالتعريف التوراتي لليهودي، وهو حصرياً من ولد لأم يهودية. ومما يقال في ذلك أن هذه القوى لن تتسامح إطلاقاً مع إجراءات تسعى لاختلاق اليهود بالحيثية التحايلية المطروحة. وتتعزز صلابة هذا الرفض بالنظر إلى عكوف أهل الحكم والسياسة الإسرائيليين على تعزيز الهوية الدينية للدولة، وصولاً إلى محاولة حمل الفلسطينيين على الاعتراف بها وفقاً لهذا المفهوم الديني.

بصيغة أخرى، لا تستقيم جهود حقن إسرائيل بمدد سكاني غير يهودي، مع التوجه الحثيث لتعريفها كدولة يهودية قحة. ترى كيف ستتصدى لجنة بينيت وأنصارها لهذه الإشكالية؟

 

عن جريدة "الحياة" اللندنية