عن لعبة النار على حدود غزة، والمشهد العراقي

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

نعم لعبة النار وليس النار نفسها.
الذي يجري هو "غطاء" شرعي أو "مشروع" للهدنة. باختصار وبدون مواربة وبدون كلام كبير أو منمّق.
الذي يجري في الواقع هو أن حركة حماس تحتاج إلى هذا الغطاء، وإسرائيل تحتاجه بصورة مضاعفة [لسكان غلاف غزة والمشهد السياسي كاملاً]، والولايات المتحدة ستعتبر لعبة النار على حدود غزة "مدخلاً" جيداً "لتنشيط" موضوع غزة، أما حركة الجهاد الإسلامي فستعتبر نفسها وكأنها قامت بالواجب، وعبرت عن رفضها للهدنة القادمة، دون أن تصل الأمور إلى الاصطدام مع حماس.
إذن هي لعبة الهدنة القادمة.
لم تعد هناك مجالات واسعة للتكهن حول دور قطاع غزة في الصفقة القادمة.
وإذا كان هناك هوامش هنا وأخرى هناك في اطار هذه التكهنات فهي أصغر من أن تؤثر في كامل المشهد وفي مفاصل المعادلة.
المطروح لقطاع غزة أصبح معروفاً:
بعد أن "تنازلت" إسرائيل عن النزع الكامل للسلاح من "المنظمات" أصبح المطلوب هو تخزين هذا السلاح ووضعه تحت رقابة معينة وبضمانات خاصة موثوقة.
وبعد أن يتم التأكد من ذلك سيصار إلى السماح بوجود هذا السلاح في حدود مهمة ضبط "الأمن الداخلي" وليس غير ذلك.
وبعد أن تم الإفصاح عن نوايا وتوجهات حركة حماس، بما في ذلك النوايا التي تتعلق بأهداف مسيرات العودة، فقد وافقت إسرائيل على تخفيف الحصار إلى الحدود الدنيا وليس فك هذا الحصار مقابل "تنازلها" عن موضوع نزع السلاح بالكامل.
وبعد أن عبرت الولايات المتحدة عن رغبتها في الدخول إلى موضوع غزة وتوظيفه في "صفقة القرن" عبر البوابة "الإنسانية"، فقد أصبح مطروحاً على جدول الأعمال إعادة تأهيل البنية الأساسية في القطاع كجزء لا يتجزأ من الصفقة.
هذه الموافقة عبّر عنها منسق شؤون المناطق بصورة واضحة وفصيحة لا لبس فيها وعلى الهواء مباشرة وليس في غرف مغلقة.
بموجب كل ذلك تكرس حالة الانفصال، ويغلق ملف إنهاء الانقسام، وتكون السلطة والمنظمة حسب هذا كله قد خرجت من المعادلة "الغزاوية".
هذا يعني في الواقع أن ملف المقاومة يكون بالمقابل قد أغلق، ويكون هذا الملف قد وظف في تكريس الانقسام وتحوله إلى انفصال.
وبما أن هناك وساطات عربية لإنجاز هذه الهدنة فمن الطبيعي أن يتم تخفيف الحصار وصولاً إلى إنهائه تماماً مع تحول القطاع إلى كيان خاص له شرعيته الخاصة وله تمثيله الخاص وله دوره المحدد.
في هذه الحالة تكون الهدنة طويلة الأمد، بغض النظر إن كان هذا الأمر منصوصا عليه أو "مفهوما" ضمنياً، بعد أن تتم كل هذه الخطوات تكون إسرائيل قد تمكنت من فصل القدس نهائياً عن الضفة، وتكون الضفة "غير المفيدة" لإسرائيل قد قسّمت إلى ثلاث أو أربع مناطق في معازل لا تتصل ببعضها البعض إلاّ عَبر المعابر والحواجز الإسرائيلية.
وبذلك تكون هذه الهدنة هي الآلية المباشرة والفاعلة لضرب المشروع الوطني القائم على وحدة الشعب والقضية والوطن، وعلى وحدة وشرعية التمثيل السياسي، ويتحول مشروع إقامة الدولة الوطنية المستقلة إلى كانتون أو إمارة في قطاع غزة.
أما القدس و"اللاجئين" والحدود والمياه والأسرى وكل ما يخطر بأي بال، فستكون قد تبخّرت في الواقع، وتحوّلت إلى قضايا مبعثرة وغير محدّدة، وقد لا تكون قضايا سياسية وطنية جامعة بقدر ما يمكن أن تتحول أهدافا وجدانية وإرثا سياسياً ليس أكثر.
لعبة النار على حدود غزة مكشوفة تماماً.
التمهيد الناري هو تمهيد سياسي وإعلامي للهدنة القادمة.
لكن أمام كل هذا هل يجوز للمنظمة والسلطة الوطنية أن تبقى في مواقع الإدانة والشجب والاستنكار للعدوان على القطاع دون أن ترمي بكل ثقلها لمواجهة القادم والذي تدركه تماماً وتعرف أخطاره على المشروع الوطني وتعي تبعاته المدمرة على الشعب والقضية ووحدة الوطن؟
ألا يجب الإسراع إلى فتح حوار وطني شامل بين كل مكونات الشعب الفلسطيني لبحث الكيفيات الكفيلة بإحباط هذه الخطة الأميركية الإسرائيلية الماثلة أمام أعين الجميع؟!
وهل يجوز أن يبقى القطاع فريسةً لهذه المخططات، أم أننا نستطيع ومنذ الآن وقبل فوات الأوان إغلاق كل المنافذ أمام كل المخططين وكل المنفذين، وكل المنتفعين والمعتاشين على هذه المخططات؟!
ألم يعد ملحاً وراهناً واستثنائياً وبسرعة فائقة الإعلان الواضح والصريح عن انخراط المنظمة والسلطة بكل إمكانياتها لإعادة إدماج كامل اقتصاد قطاع غزة في التوجهات المالية والاقتصادية للسلطة الوطنية قبل إعادة إدماج قطاع غزة في صلب المشروع الوطني؟!
أقول هذا قبل أن يصبح الأمر متأخراً، وقبل أن تكون المخططات قد دخلت مرحلة التنفيذ المباشر، أو قبل أن يكون هذا التنفيذ قد وصل إلى مرحلة اللاعودة.
لا يكفي أن نطمئن إلى نتائج المجلس الوطني، ولا يكفي أن نعتبر بأن المنظمة بخير بعد عقد دورة المجلس.
المطلوب أن نعتبر أن عقد المجلس هو بداية، مجرد بداية بسيطة لما يجب أن يتم إنجازه بسرعة.
لعبة النار على حدود القطاع ستحرقنا إن لم نتحرّك.

حول فوز الصدر: المغزى والدلالة

الدروس التي أفرزتها الانتخابات العراقية الأخيرة أكثر من هامة، وأكبر وأوسع من العراق، على الرغم من كل ما شاب هذه الانتخابات من نواقص أو خروقات.
معروف ان الولايات المتحدة قد سلمت العراق - على طبق من فضة ـ لإيران إلى الدرجة التي أوصلت للقول: "الولايات المتحدة كانت تحتل العراق في حين كانت إيران هي الحاكم الفعلي فيه".
اعتمدت الولايات المتحدة على "حزب الدعوة" في إعادة (صياغة) العراق، لأن "حزب الدعوة" كان القوة السياسية الوحيدة المستعدة لتبني هذه الصيغة بالكامل، مع معرفة الولايات المتحدة مسبقاً بأن هذا الحزب بالذات هو الوكيل الأساسي لإيران في العراق، إضافةً إلى بعض الميليشيات المحيطة به.
باختصار لم تكن أميركا بعد ترى أن إيران قد أصبحت على جدول الأعمال المباشر، ولذلك وفي ظل حساسية "العلاقة" كان "لا بد" من اعتماد ما تم اعتماده.
أطبقت إيران سيطرتها على العراق، وأصبحت الحاكم الفعلي له طوال هذه المرحلة، وأصبحت الصبغة "الشيعية" صبغة تطغى على المشهد السياسي في العراق.
من داخل القلعة الشيعية نفسها بدأ يطل مقتدى الصدر كحالة تعطي الأولوية المطلقة لمقاومة الاحتلال الأميركي، وضد كل محاولات التقسيم والسطوة الإيرانية، وبذلك برز اسم الصدر كحالة عروبية ومنفتحة ووطنية.
يقال هنا إن إيران استدعت الصدر وحاولت بكل الوسائل ثنيه عن هذه السياسة، بل ويُقال، أيضاً، إنها مارست عليه أشكالاً من الضغوط والتهديد، بل وقيل، أيضاً، إن الصدر "مكث" في إيران وقتاً طويلاً إلى درجة أن بعض الأوساط العراقية الوطنية والعروبية أصبحت تتحدث عن نوع من الاحتجاز.
يمكن وبغض النظر عن صحة أو دقة كل ما قيل حول علاقة الصدر بإيران فإن المؤكد هو أن الرجل له من التوجهات ما يختلف بها عن إيران.
الفوز الذي حققه الصدر يعتبر بكل المقاييس مؤشراً على أنه يؤمن بالتعددية والانفتاح بدليل تحالفه مع أطياف سياسية وفكرية مختلفة.
فقد تحالف مع الشيوعيين ومع قوى ذات توجهات وطنية، عراقية وحدوية، كما أعلن عن تفهمه للكثير من المطالب المحقّة للأكراد، ورفض وما زال يرفض الطائفية المنغلقة، ورفض وما زال يرفض الهيمنة السياسية والإيرانية تحديداً.
الفوز يعني إذن أن المواقف الوطنية المستقلة والمتنوّرة والتي تؤمن بالتعددية هي المواقف التي ينظر بها الكثير من العراقيين الشيعة لمستقبل العراق، على الرغم من أن أصحاب منهج الانغلاق والهيمنة ما زالوا أقوياء حتى وإن تم اختراق قلعتهم.
لكن فوز الصدر في دلالته ومغزاه أكبر من تشكيل حكومة تحظى بموافقته ورضاه.
معركة تشكيل الحكومة في العراق تعتبر اليوم البداية الفعلية للدور العراقي في المعادلة الإيرانية القادمة.
فإذا قام تحالف شيعي جديد لإقصاء الصدر من دور الموجّه لسياسات الحكومة القادمة يكون العراق في الواقع قد عاد ليكون بلداً مكرساً بمقدراته وإمكانياته وسياساته في خدمة الاستراتيجيات الإيرانية على مستوى الإقليم، ويكون التحالف الجديد بمثابة الركيزة (الديمقراطية) لتكريس هذا الواقع، مع فارق صغير وهو البدء بتشكيل معارضة عراقية قوية لهذا التحالف بقيادة الصدر، يمكن أن تتطور إلى مرحلة يتم خلالها مأسسة هذه المعارضة وتحولها إلى جسم وطني مانع وقوي في وجه الحالة الإيرانية في العراق.
أما إذا تم التوصل إلى صيغة "توافقية" تعيد هيمنة "حزب الدعوة" بدون معارضة عريضة وبحيث يكون "الصدر" في الكتلة الضامنة لبقاء الحكومة، ولكنه الكتلة الضاغطة في نفس الوقت عليها لإبقائها على خطوط التماس ما بين إيران والمصالح الوطنية للعراق فإن المعادلة في العراق تكون في الواقع قد عادت إلى هيمنة إيرانية غير مباشرة وسطوة إيرانية أقل، وشروط أعلى لدورها في العراق.
في هذه الحالة تكون المعارضة مجرّد احتياط كامن وليس صيغة عملية قائمة، ولن يتم الذهاب باتجاه بلورتها وتماسكها ومأسستها إلاّ حين "الضرورة".
أما إذا تشكّلت حكومة جديدة بقيادة توجهات الصدر فالمعركة جديدة ومختلفة.
في هذه الحالة لا مناص أمام إيران من العمل على انقلاب حتى ولو كان دموياً لمنع قيام حكومة وطنية تضع في اعتبارها وأولوياتها المصالح الوطنية العراقية.
في هذه الحالة، أيضاً، لا مناص من تغير تحالفات العراق، ومن الانفتاح على الخليج، ومن مغازلة الغرب ومن إبقاء العلاقات مع إيران في دائرة حسن الجوار.
باختصار تشكيل الحكومة في العراق هو المؤشر الأهم على الحالة الإيرانية فيها.
لهذا بالذات فإن الحكومة القادمة ليست مستقرة، وليست قادرة على الثبات قبل اختبار مدى قدرة إيران على التحكم بالمعادلة العراقية.
كسر المعادلة الطائفية في العراق ممكن للمرة الأولى منذ احتلاله وسقوط صدام، لكن كسر هذه المعادلة يحتاج على ما يبدو إلى جولة جديدة من الصراع الداخلي دون أن نستثني دورات دموية من العنف.
هي المرة الأولى التي تتيح خلخلة كبيرة في "مسلمة" التحكم الإيراني في هذا البلد، وهي المرة الأولى التي تتيح تشكل معارضة قوية، وهي المرة الأولى التي يمكن أن تقطع شريان التواصل ما بين طهران والمتوسط، وهي المرة الأولى التي يمكن أن تدخل الأكراد في المعادلة الداخلية عن مواقع المواطنة العراقية الكاملة والشراكة الوطنية الحقيقية، وهي المرة الأولى التي يمكن أن يبدأ العراق بإعادة التنمية الوطنية الجادة.
ولكن كل هذا لن يساهم في البدء بمعركة مواجهة الفساد.
لماذا؟ لأن الفساد في العراق يحتاج إلى أدوات جديدة ليست متوفرة بعد في المجتمع السياسي العراقي إلاّ بهوامش معزولة على المستوى الرسمي، على الرغم من أن هذه الهوامش كبيرة للغاية على المستوى الشعبي.
علماً بأن معدلات الفساد في العراق قد أهدرت مئات المليارات حتى الآن، وهي الأعلى في العالم، وهي امتدت للانتخابات الأخيرة نفسها حيث ما زال 10% من الأصوات غير معروفة لأحد.
بلغت كلفة نظام الانتخابات الإلكتروني أكثر من مئة مليون دولار و"السيرفر" الخاص بهذا النظام كان في بلد عربي وليس في العراق.
معركة الفساد ومعركة مكافحة الفساد هي أم المعارك الحقيقية بعد معركة التخلص من السطوة الإيرانية.