كل يريد الوطن على مقاسه

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

كل في البلد يريد الوطن على مقاسه فقط، وهذا ينسحب على الفئات الاجتماعية كافة، البعض يريد تضييق الوطن على مقاس خصره والآخر يريد توسيعه على مقاس خصره أيضا، الكل لديه الرأي السديد وهو منزو من زمان لأن أحدا لا يسمع رأيه، وان استمعت إلى رأيه تجد الأمر ليس أكثر من حالة تذمر ليس إلا ناتجة فقط عن عدم تحقق رغبة آنية.
الناس في بلدي ينتظرون الكثير من الحكومة بحيث تكون مستقبلة لرؤى القطاعات المختلفة وفتح قنوات التأثير على سياساتها وقرارتها بعد انسداد تلك القنوات، بحيث تقوم الحكومة في جلساتها الأسبوعية بالخروج من بنود الإدانة والتمني وتأييد موقف هنا وهناك حتى نصل لقرار يتعلق بالتوقيت الصيفي وساعات دوام رمضان وإشادة بدور الضابطة العدلية في ضبط السوق وترحيب برؤية وزارة الاقتصاد بأن الأسعار معتدلة «على أساس ان الوزارة هي من دوزنتها!!!».
الناس يطلبون من الوطن الكماليات قبل الأساسيات، ولكننا نجد ان الالتزام الضريبي منخفض تماما وهناك شواهد على ارتفاع الدخل ولا يتوازى مع العبء الضريبي، وكلما تحسن أداء ومؤشر الجباية الضريبية يخرج بعض المتنفذين الاقتصاديين ليلوحوا للمستهلك اذا استمر التركيز على ضريبة الدخل وعلى تحصيل الجمارك بالنسبة الواجبة تتأثر أسعار المستهلك وكأن المستهلك يعيش في رفاه من حيث عدالة الأسعار وملاءمتها لقدرته الشرائية حتى يهدد بما هو موجود أصلا، وما هذا إلا مدخل للمزيد من التهرب الضريبي.
هناك فرق واضح وجلي بين تفصيل الوطن على مقاسك ومقاس مصالحك الآنية الذاتية ومكاسب تبنيها في مخيلتك وبين وطن يصلح لعيش الجميع فيه حيث نتساوى في الحقوق والواجبات ونعمل معا كتفا بكتف لنبني مجتمع الرفاه ونجسد المساءلة والشفافية والعدالة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتصر للمواطن لا تنتصر عليه.
لا أجد وجاهة في حديث البعض المتكرر محوره «تضخم الأنا» والتقليل من أهمية الآخر وهذه المعادلة السائدة في تفصيل الوطن على مقاسنا، كل المناصب لا يليق بها إلا «أنا»، المال العام حق لي انا فقط دون بقية الوطن، وقد تجد أن هذه الظاهرة ليست فردية بل تتمأسس وتصبح هناك مؤسسات عنوانها الشأن العام ولكنها في نهاية الأمر تصبح جزءا من تضخم الأنا ويصبح رئيس المؤسسة يقول، قلنا لهم ولم يسمعوا منا، ومجمل نشاطات المؤسسة تكون أما تكرارا منمقا لحديث الرأي العام، أو تقارير قديمة تعتمد على قطاع محدد ومن ثم يتم تصويب معلوماتهم، ولكنهم جماعة «عنزة ولو طارت» لا انتم تضللون الجمهور، ويعتلي منصة هذه المؤسسات من هم غير مطابقين لمعايير المؤسسة التي تسعى لتعزيزها ليحاضروا فينا.
يجب ان يفصل الوطن على مقاس المصلحة الوطنية العليا وليس على مقاس أفراد او شركات متنفذة أو أشخاص طامحين بشكل غير مشروع، يجب ان يكون مختلفا بالكامل كما كنا نحلم يوم انخرطنا في العمل التطوعي مطلع العام 1970 ويوم حلمنا ونحن نسعى لإيجاد مسرح فلسطيني شعبي معبر عن هموم وطموحات الناس يوم كنا أعضاء فاعلين في المكتبات العامة في مدننا ونناقش كتابا ومقالا.
يوم قرأنا كتابا للدبلوماسي نعيم خضر عن مسح الكفاءات الفلسطينية والتي اعتبرت جاهزة لصناعة فلسطين المستقبل بأعلى المواصفات، يوم قرأنا الرؤية التنموية الفلسطينية التي اعدها يوسف الصايغ مع فريق خبراء فلسطينيين قبل إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، يوم كنا نذهب لنحصد القمح مع المزارعين الذي غاب اليوم، والزيتون الذي لم يعد منافسا، يوم كنا مفتونين بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ورموزها وكنا نتابع دورات المجلس الوطني ونقول ان فلسطين وطن كل الفلسطينيين وليس وطن من يملك المال ومن يملك القدرة على بناء ضخم، ويومها كان للمخيم وجهه وكنا نتغنى بالكادحين في الوطن لأنهم ملح الأرض.
وطن يحمي الشباب والشابات ويحولهم الى قوة دفع رباعي للبناء والتنمية والتغيير والتأثير وترك بصمة والمشاركة السياسية يعيد الاعتبار للعمل التطوعي، وطن يحفظ التعددية والديمقراطية وتداول السلطة، وتعزيز اقتصاد الصمود، يجب ان نتجه صوب حماية المؤسسة وضمان عدم تحول الفصائل  الى عبء على المواطن والوطن تحصن نفسها وتدير ظهرها للمواطن وقضاياه وترجع له بكل رسائل الحب عند الانتخابات.
منذ الصغر، كنا نظن ان اهم مقعد في الحافلة هو المقعد الخلفي الأخير حيث نشعر أننا نقود الحافلة ونسيطر على الركاب، واليوم يتكرر المشهد في البلد، الصف الأخير في المسجد يظن نفسه ملك المشهد فيبيح لنفسه تقييم ولوم كل الوطن وتقييم الخطيب وتقييم أداء بقية المصلين، والصف الأخير في المؤتمرات وورش العمل يقوم بذات الدور حتى أن احد المسؤولين مرة صعد الى المنصة من الصف الأخير في القاعة فقال، لا زلت متأثرا بمعطيات الصف الأخير في القاعة وها انا اعتلي المنصة وأخاف من تقييماتهم.