ذلك الصباح الحزيراني البعيد..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

لا يوجد بين العرب الأحياء والأموات، على مدار نصف قرن مضى، مَنْ لم يسمع عن شيء اسمه الخامس من حزيران. يزيد عدد العرب الأحياء، اليوم، على 390 مليون نسمة، وربما نجد ما يبرر القول: إن مصير هؤلاء قد تشكّل، وتأثر، في تفاصيل لا تحصى، بما وقع في ذلك الصباح البعيد، في مثل هذا اليوم، قبل واحد وخمسين عاماً، فيما سيُعرف باسم النكسة، أو هزيمة حزيران، أو حرب الأيام الستة.
ولكن: هل يحق لأحد مصادرة التواريخ المحلية، والخصوصيات السياسية، والجغرافية، والثقافية، لعالم الثلاثمائة وتسعين مليون نسمة، على مدار نصف قرن، وادعاء العثور على صلة من نوع ما بينه وبين ما وقع في ذلك الصباح البعيد؟ وما علاقة ما آل إليه وضع الدول العربية بحزيران؟ هل كان هو مبرر الاستعصاء الديمقراطي، والتمركزات الطائفية، والقبلية، والجهوية، وما أنجبت من حروب أهلية، وأنظمة دكتاتورية، ودول فاشلة؟
ثمة مجازفة غير منطقية في وضع كل شيء على عاتق حزيران. وثمة مجازفة غير منطقية في التعامل معه كحدث عابر، أيضاً، أو حتى حصره في المصريين والسوريين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين، الذين دفعوا فاتورته في عين المكان والزمان.
من المُرجّح أن المسافة بين حدين غير منطقيين قد تضيق أو تتسع لأسباب وثيقة الصلة لا بالحقيقة التاريخية بل بالصراع على تأويل الماضي، ففي كل محاولة لاستدعاء الماضي ما يعني استجابة لإكراه من نوع ما في الحاضر، لذا الحقيقة التاريخية تعددية، وملتبسة، وتقبل التأويل على أكثر من وجه، وتختلف باختلاف الإكراهات والأزمنة.
على خلفية كهذه، فقط، يمكن استخدام تعبيرات من نوع تشكّل، وتأثّر، في معرض الكلام عن المصير. ففي كل الحروب المفصلية في التاريخ ـ وحزيران كان حرباً مفصلية ـ تتجاوز المعاني المُحتملة للنصر والهزيمة نطاق الجيوش والأنظمة، وتتجلى، بأثر رجعي، في انتصار أفكار ومفاهيم وتصوّرات على غيرها. لا يوجد أحد، تقريباً، لم يستخدم في يوم ما تعبير أن التاريخ يكتبه المنتصرون. هذا لا يحدث بين يوم وليلة، وقد يتبنى المهزومون أنفسهم، في وقت ما، رواية المنتصرين عن تاريخهم.
وما حدث في حزيران أن أفكاراً ومفاهيم وتصوّرات انتصرت على غيرها. ولعل أبرزها أن قيم الجمهوريات الراديكالية، وفي القلب منها مكافحة الاستعمار، والتبعية، والتخلّف، مع كل ما تنطوي عليه من كلام عن التقدّم والرجعية، وصفة مضمونة للهلاك.
ولا يحق من باب النزاهة الأخلاقية والسياسية استخدام النهايات الكارثية للجمهوريات الراديكالية، كما تبدو للعيان في يوم الناس هذا، للقول: إن اليمين الديني، والأنظمة الرجعية والمحافظة والتقليدية، التي احتمت بالاستعمار وتحالفت معه، كانت على حق. فهو، كما هي، كان بين المنتصرين في حزيران.
ثمة نماذج كثيرة للجمهوريات الراديكالية، منها الكاريكاتور البعثي السوري والعراقي والليبي. ولكن مصر الناصرية كانت نموذجها الأصدق والأهم. لذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن تتربع، بقيمها، على زعامة العالم العربي، ولا كان من قبيل الصدفة أن يرى فلاّحون فقراء، وقبليون، وأميّون، وسكّان مدن، من المحيط إلى الخليج، في عبد الناصر مُخلّصاً وصاحب سلطة معنوية تفوق، بقدر ما يتعلّق الأمر بالضمير، سلطة حكّامهم الفعليين. وبهذا المعنى، تتجلى الدلالة الحقيقية لهزيمة الجمهوريات الراديكالية، وبه، أيضاً، يمكن القول: إن حزيران كان هزيمة الناصرية.
ولا أجد أبلغ من حادثة يختصم عليها الناس في مصر هذه الأيام، وتخص الشيخ شعراوي، الذي صرّح أنه صلى ركعتين شكراً لله، على الهزيمة "لكي لا تُفتن مصر في دينها". وهذا ما لا يستحق حتى التعليق، إلا بقدر ما يُسهم في إعادتنا إلى حقيقة ما حدث في ذلك الصباح البعيد.
لا علاقة للأمر لا بالفتنة، ولا بالدين، بل بما أثار نموذج الجمهورية الراديكالية الناصرية من ذعر في أوساط اليمين الديني، والمحافظين والرجعيين العرب، في سدة الحكم وخارجها. فقد كان هؤلاء، وما زالوا، في المعسكر الذي أطاح بمصدق في إيران، وهزم نموذج الجمهورية الراديكالية الناصرية في حزيران.
هل كان عبد الناصر دكتاتوراً؟ الجواب: نعم. وهل كانت مصر الناصرية جنّة الحرية والعدالة الاجتماعية؟ الجواب: لا. وهل دخل في الأيام التي سبقت ذلك الصباح البعيد في مغامرة غير محسوبة العواقب؟ الجواب: نعم.
لا ينبغي التقليل من أهمية أسئلة كهذه، ولكن توظيفها للنيل من نموذج الجمهورية الراديكالية الناصرية شيء، وتحليلها في معرض الكلام عن المصير المأساوي لنموذج كان ابن زمانه ومكانه، وتجلّت فيه نواقص المكان والزمان، بقدر ما تجلّت فيه، أيضاً، طموحات وأحلام الزمان والمكان، شيء آخر.
والواقع أن تشويه وتمويه الفرق بين الأمرين يمثّل الثغرة التي تسلل منها، وما زال، اليمين الديني، والرجعيون، والمحافظون، لتأويل ما حدث، في ذلك الصباح البعيد، بطريقة تجعل من افتعال الحكمة، بأثر رجعي، غطاء لتبني المهزومين أنفسهم رواية المنتصرين.
للروائي، واليساري المصري، شريف حتاتة، عبارة موحية في الكلام عن عبد الناصر. يقول: "كان أعظم إنجاز لعبد الناصر جنازته، فلن يرى العالم مرّة أخرى خمسة ملايين شخص يبكون معاً". وإذا أضفنا إلى الملايين الخمسة وراء نعش عبد الناصر، في القاهرة، ملايين العرب الذين بكوا في اللحظة نفسها، ندرك أنهم كانوا يبكون ضياع الأمل، وفقدان البوصلة. وهذا، بالتحديد، ما لاحت تباشيره في ذلك الصباح البعيد.