في موضوع الذعر الأخلاقي..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

للذعر الأخلاقي دلالات ومرجعيات في علوم السياسة والاجتماع. في الغرب، طبعاً، أما في النسق العربي ـ الإسلامي فإن في مجرّد تحويله إلى موضوع للدرس والتحليل ما يهدد سلامة النسق، ويُعطّل قدرته على إعادة إنتاج نفسه.
في جسم الإنسان جهاز مُعقّد للمناعة وظيفته الحماية، وتمكين الكائن من إعادة إنتاج النوع. وإذا جازت المقارنة، يمكن القول إن ثقافة النسق العربي ـ الإسلامي، الذي تشكَّل على مدار قرون، تقوم مقام جهاز المناعة، وظيفتها الحماية، وتمكين النسق من إعادة إنتاج النوع.
ولكن، إذا كانت كريات الدم هي الموكلة بالدفاع عن جسم الإنسان، فما هو معادلها الثقافي في النسق العربي ـ الإسلامي، وما هي طريقة عمله في الجسم الاجتماعي؟ غياب النقد الذاتي، والعجز عن تأمل الذات في مرآة الزمن، أو الآخرين. ولكي لا يجهلن أحد على أحد فلنقل إن التفكير في هوية وخصوصية ووظيفة المُعادل الثقافي، كان وما زال في صميم كل محاولة للإجابة عن سؤال شكيب أرسلان قبل ثمانية عقود: «لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدّم غيرهم»، وأن السؤال نفسه كان دافع من سبقوه، ومَنْ جاؤوا بعده، في سياق البحث عن ضوء في آخر النفق.
والمهم أن نحتفظ في الذهن بحقيقة أن سؤالاً كهذا طُرح على خلفية اعتراف صريح بتأخّر المسلمين، وتقدّم غيرهم، في ظل مجابهة حضارية وعسكرية خاسرة مع الغرب منذ الغزو النابليوني لمصر. وهو سؤال رفاعة الطهطاوي، قبل أرسلان بمائة وعشر سنوات، وسؤال محمد عابد الجابري بعد أرسلان بثلاثة وأربعين عاماً.
والواقع أن المُعادل الثقافي كينونة يصعب تعريفها والقبض عليها، يمكن، فقط، مقاربته، والاقتراب من هويته، وخصوصيته، من خلال طريقته في العمل، وما تولِّد من أعراض خارجية. ترتفع حرارة الإنسان، مثلاً، إذا تجنّد جهاز المناعة للدفاع، ولكن ما الذي يرفع حرارة الجسم الاجتماعي، إذا تجنّد المُعادل الثقافي للدفاع؟
الجواب: الذعر الأخلاقي. ففي علوم الاجتماع ينشأ الذعر الأخلاقي عن إحساس الناس بخطر داهم يتهدد الكينونة الاجتماعية، وهم يفعلون ذلك انطلاقاً مِنْ، واعتماداً على، مفردات وقيم وأفكار خطاب مُهيمن. وبما أن السلطة، كما في تحليل غرامشي لخطابها، لا تتمكن من تأبيد وجودها دون خطاب مُهيمن، يتكوّن من أخيلة، وأفكار، وتصوّرات، تعمل على إنتاجها، وتسهر على حمايتها، فلن تعوزهم الحاجة، ولن يجدوا ضرورة لبلورة أفكارهم بأنفسهم، ففي خطاب السلطة ما يكفي ويزيد.
وبهذا نتقدّم خطوة أولى: السلطة، خاصة البطريركية، وظيفتها الإرشاد والحماية، من خلال ما لا يحصى من منتجي ومروجي وحارسي خطابها. وهي الموكلة بتعريف الصحة الاجتماعية، وتشخيص الخطر، وآليات الدفاع، ولا يمكن أن تكون كذلك، أو أن تفعل ذلك، بما يضمن تأبيد وجودها، إلا إذا استمدت ما يبرر وجودها من المُقدّس. وبهذا، يكون الذعر الأخلاقي، في يدها، بمثابة السلاح المزدوج: فهو ضروري لبقائها، ومصدر تهديد لها بوصفه سلاحاً في يد معارضة تسعى لتقويضها بدعوى الفشل في حماية الجسم الاجتماعي.
وإذا كان من الممكن إعادة قراءة كل تاريخ النسق العربي ـ الإسلامي على مدار ألف عام مضت على خلفية كهذه، فيمكن، أيضاً، تحليل التنافس بين الأنظمة القائمة في العالم العربي، منذ نشوء الدولة الحديثة، ومعارضيها الإسلاميين، على مكان ومكانة مَنْ يخدم صحيح الإسلام أكثر، على الخلفية نفسها.
ففي سيرة محمد بن عبد الوهاب، كما حسن البنا، وسيّد قطب، نعثر، دائماً، على تجارب تكوينية أولى من نوع أن ما شهده هؤلاء من فساد، وتحلل أخلاقي، وانهيار للقيم، كان الدافع الرئيس لتكوين ما أصبحوا عليه. وبما أن الذعر الأخلاقي يتجلى في انطباعات، واستيهامات، ولا يستدعي مرافعات موضوعية، تفقد الحقائق الاجتماعية والسياسية قيمتها الموضوعية، في كل ما نجم عن دوافع شخصية من مشاريع أيديولوجية للحماية والإنقاذ.
ولكن، وبهذا نعود إلى التنافس بين الأنظمة ومعارضيها، خاصة بعد نشوء الدولة الحديثة: النخب الحاكمة تُطعّم خطاب الهيمنة بمفردات، ومفاهيم جديدة، مُستمدة من طبيعة الزمن نفسه، ولا تجد غضاضة، مثلاً، في معرض التدليل على وظيفتها في الإرشاد والحماية، من الكلام عن حرية المُعتقد، والحق في الاختلاف، في عبارة واحدة تبرر فيها إنكار حرية التعبير، والحق في الاختلاف، بذريعة الدفاع عن القيم والتقاليد والثوابت الدينية والاجتماعية، بينما لا يجد معارضوها ما يبرر هُجنة كهذه، فلا مكان في خطابهم العائد من زمن آخر لحريات كهذه.
لذا، يبدو المعارضون، بحكم ما يسم خطاب الهيمنة من تلفيق، أكثر تمثيلية وأصالة. والواقع أن لا أسلوب حياة، ولا معتقدات، النخب الحاكمة، في النسق العربي ـ الإسلامي، يصلحان للتدليل على تمثيلها الصادق للقيم والتقاليد والثوابت الدينية والاجتماعية.
وإذا كان في هذا ما يُضفي على خطابها دلالة النفاق، إلا أن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد. أيضاً. فالنظام البطريركي الذي يُعامل مواطنيه كرعايا، وقُصّرٍ، لتبرير وتفسير وظيفته في الحماية والإرشاد، يهرب إلى الأمام، منذ أربعة عقود، في محاولة لتأبيد وجوده، باستثمار غير مسبوق في الحقل الديني، وبهذا يصب الماء في طاحونة معارضيه.
بمعنى آخر، أسفر التنافس على صدقية التمثيل، كما الاستثمار في الحقل الديني، عن توطين وتسليع وتسويق الذعر الأخلاقي ليصبح موضوعاً للرهان والمضاربات، بين النخب الحاكمة، ومعارضيها. هذا أحد المعاني المحتملة لما نحن فيه وعليه، وفيه، أيضاً، ما يُفسّر لماذا يجتاح النسق العربي ـ الإسلامي كل هذا القدر من العنف، ولماذا يسخن الجسم الاجتماعي حتى من نوافل الأشياء، ولماذا تبدو «الأخلاق» انتقائية إلى هذا الحد، ويبدو انفصالها عن القيم من طبائع الأمور.