كرة قدم سياسية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في زيارته الأخيرة لفلسطين، وفي سهرة مصغرة مع «روجر شاوينار لاعب الهجوم في المنتخب الهولندي في الثمانينات «، ومساعد مدرب منتخب بلاده لكرة القدم حالياً، أخبرنا بمعلومة بدت لي مدهشة، جاءت على شكل سؤال: ما هي المدة الزمنية التي تلامس بها قدم اللاعب الكرة خلال التسعين دقيقة (مدة المباراة)؟ وكانت الإجابة المفاجأة أنها لا تتعدى الدقيقتين، حتى لأمهر اللاعبين، بما في ذلك «ميسي» و»رونالدو».. ينبني على هذا السؤال، سؤال آخر: ماذا يفعل اللاعب طوال الـ 88 دقيقة المتبقية؟ الإجابة طبعا: يمضي طوال الوقت إما يركض، أو يقف متأهباً..
أراد المدرب من خلال هذه الأسئلة أن يتوصل لنتيجة مذهلة: طالما أن أي لاعب حتى يستحق دخول المنتخب الوطني لا بد أن يمتلك قدراً كبيراً من المهارات الفردية واللياقة البدنية والسرعة والخبرة.. وبالتالي، ما الذي يميز لاعباً عن آخر؟ ما هو الشيء الذي يجعل لاعباً ما الأكثر براعة وشهرة؟ الجواب ببساطة ذكاؤه في كيفية التصرف خلال الـ88 دقيقة المتبقية، أي كيف ومتى وإلى أي اتجاه يركض؟ ومتى ينتظر؟ وأين يقف؟ وحين يلتقط الكرة أين يوجهها؟ وهذه مهارات تعتمد بشكل أساسي على العقل. بمعنى أن المهارات الفردية واللياقة والقدرات الفنية تقريبا متساوية لجميع اللاعبين، لكن اللاعب الأمهر هو الذي يمتلك قدراً أعلى من الذكاء.  
ولكن، أي لاعب مهما أوتي من مهارات وذكاء.. لا يمكن له أن يفعل شيئاً بمفرده، دون فريق كامل متعاون.. وأي فريق مهما كان بارعاً ومتعاوناً لا يمكن له أن يفوز دون خطة ذكية ومحكمة.. وهنا يأتي دور المدرب.
المدرب قد يكون عجوزاً، أو لا يتمتع باللياقة، هذا ليس مهماً؛ لأنه يظل جالساً على مقاعد المتفرجين، المهم امتلاكه الخبرة والحنكة والذكاء في وضع الخطط، ولو كانت هناك خطط جاهزة لحفظها اللاعبون بأنفسهم، وبالتالي تنتفي الحاجة لوجود مدرب.. المشكلة أن الخطط غير ثابتة، ومتغيرة على الدوام، وتعتمد على جملة من الظروف المتحركة.
إذن، تستغرق المباراة تسعين دقيقة، يركض اللاعبون خلالها عشرات الأميال دون أن يلامسوا الكرة، من أجل تسجيل هدف في مرمى الخصم، ليحسم المباراة بالفوز.. وهذا الهدف في الواقع قد لا يحتاج إلا لعشر ثوان.. لكن صناعة هذا الهدف تعتمد على جهد جميع اللاعبين وركضهم الدؤوب، وتعاونهم، والتزامهم بخطة المدرب..
وأيضا، قد يمضي حارس المرمى التسعين دقيقة وهو بالكاد يلامس الكرة بضع مرات، وهو في واقع الأمر لا يفعل شيئاً خارقاً طوال المباراة.. يستهلك جل وقته واقفاً.. لكن أهمية وجوده تعتمد على اللحظات الخاطفة التي سيتصرف فيها في حال سدد أحدهم ضربة في مرماه، تسعون دقيقة انتظار من أجل ثوان قليلة! لكنها حاسمة.
وقد يُفني عالم ما عمره في أبحاث ودراسات وتجارب فاشلة، حتى يخرج في النهاية بمعادلة، أو باختراع، أو اكتشاف بسيط، وحتى لو أخفق تماماً سيكون لعمله أهمية قصوى في حقل العلوم، وبالنسبة للعلماء الآخرين.. «إينشتاين» أفنى آخر ثلاثين سنة من حياته في الركض وراء معادلة رياضية دون طائل.. ومات دون أن ينجزها.
كيف نُسقط هذه الأمثلة على واقعنا السياسي؟
تختلف الصراعات السياسية عن المباريات الرياضية في جوانب كثيرة، لكنها تتشابه من حيث حاجتها الملحة لوجود مدرب (قائد)، وخطة محكمة (إستراتيجية وطنية)، ولاعبين مهرة متعاونين (شعب متحد).. وتتشابه أيضا في أنها لا تنتهي دوما بالفوز الحاسم، فمثلاً في الملاكمة لا تنتهي المباراة دوما بالضربة القاضية، قد تحسمها النقاط..
يخوض الشعب الفلسطيني صراعاً شرساً مع المشروع الصهيوني منذ قرن، ولم يُحسم هذا الصراع لحد الآن.. لم يسدد أيٌ من الطرفين الضربة القاضية.. لم يفلح الصهاينة في طرد الفلسطينيين من الجغرافيا ولا من التاريخ، ولا من الساحة الدولية، ولم يفلح الفلسطينيون في تحرير أرضهم، ونيلهم الاستقلال.. وما زال كل طرف يسعى لتسجيل النقاط في مرمى الآخر.
الأسئلة المطروحة: هل ينقصنا المدرب (القائد)؟ أم أننا نلعب دون خطة (نناضل دون إستراتيجية)؟ أم أننا لاعبون غير متعاونين (شعب غير متحد)؟ أم أن كل فصيل يريد أن يكون وحده هو الهداف؟ أم أن الصراع ما زال مستمرا ومحتدما؟ وحتما ستأتي لحظة تسديد الهدف؟
يقول كثيرون إن الثورة الفلسطينية فشلت في تحقيق أهدافها، ولم تنجز غايتها.. رغم كل التضحيات الجسام.
حسنا، قد يكون هذا صحيحاً.. لكن، أعطوني أنموذجاً واحداً في العالمين العربي والإسلامي نجح في تحقيق أهدافه، وحقق نصره المؤزر.. الأنظمة العربية، رغم كل مقدراتها وإمكانيتها، فشلت في تقديم أنموذج واحد للدولة الناجحة، التي يرغب الناس في الإقامة فيها.. التيارات القومية والعروبية والناصرية والبعثية فشلت، اليسار بكل قواه انحسر وتراجع، تيارات الإسلام السياسي بكل مكوناتها المعتدلة والمتشددة السلمية والجهادية جميعها فشلت، وكل النماذج التي قدمتها مخيبة وبائسة.
الفلسطينيون هم الأضعف من حيث الإمكانيات والقدرات، هم الأكثر تعرضا للحصار والمضايقة، وهم الذين يواجهون بشكل مباشر ويومي العدو الأقوى والأكثر شراسة.. هم الذين يواجهون المنظومة الدولية الإمبريالية التي تتزعمها أميركا بكل جبروتها.. ومع ذلك، من المبكر جدا التسرع بإطلاق صافرة النهاية، وإعلان النتيجة.. فما زال الفلسطينيون يكافحون.
في التاريخ الحديث والقديم تبدلت خرائط كثيرة، وهُزمت جيوش، وأُبيدت شعوب، واختفت دول عديدة من الخارطة، وأتت بدلا منها دول أخرى، وتغير النظام الدولي أكثر من مرة.. وظلَّ الفلسطينيون صامدين فوق أرضهم، ويراهنون على المستقبل.
بالمناسبة، الحركة الصهيونية، رغم كل الدعم العالمي، احتاجت خمسين سنة حتى أسست كيانها الغاصب، ثم عشرين سنة أخرى حتى أكملت احتلال كل فلسطين..
والأيام بيننا سجال..