تحدثوا عن الصراع لا عن المصالحة

thumbgen (28).jpg
حجم الخط

 

 

من أكثر الأخطاء شيوعاً في عالم حل الصراعات تركيز الجهود على حل الصراع، بدل الحديث في الصراع ذاته، ويقع في هذا الخطأ كذلك، من يدرس الصراعات ويحللها، فيتجه الانتباه لتهدئة وتصغير وربما حل الخلافات، مع تجاهل تحليل الصراع وأسبابه، وهذا كما يتضح في كثير من الحالات، هو خطأ، حتى وإن كانت النوايا فيه طيبة. وينطبق هذا كما يبدو في حالة الانقسام الفلسطيني، في قطاع غزة، سواء لأن النوايا طيبة، أو لأنّ حسابات ومخاوف سياسية تؤدي لذلك.  
عندما نشأ علم العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الأولى، كانت كل الأفكار تتجه إلى "كيف نحل الصراع"، وكيف نصنع السلام. وهذا ما اتضح، أنه خطأ، أو على الأقل، هذا رأي بعض المختصين. فمثلا في كتابه الكلاسيكي، الذي صدر نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، "أزمة القرن العشرين"، يقول إدوارد كار "من غير المفاجئ أن نكتشف أنه عندما يبدأ العقل البشري بالعمل في حقل جديد، فإن المرحلة الأولى التي تنشأ يهيمن فيها عنصر التمني، فيسيطر ما نتمنى أن يكون الوضع عليه، على تحليلاتنا، فنفترض ما نرغب أن يكون الواقع عليه باعتباره الواقع فعلا، ونميل لتجاهل الحقائق أو إلى التقليل من شأنها". وهذا طبعاً يتعلق أيضاً بمن يحاول حل صراع ما. وقد استمر هذا النهج، وما يزال يؤدي أحياناً لعكس النتائج المتوقعة. وفي العام 1998، على سبيل المثال، نشر آلان تدويل، أستاذ علم الصراع الأسترالي، بحثاً انتقد فيه التركيز على حل الصراعات، وقال "إن الدراسات التي تعنى بحل الصراع تركز على "ما العمل؟" وكيف نفعل المطلوب (how to do it)، مع قليل من الاهتمام للسياق والوضع الذي يحدث فيه الصراع. إن منهجا أكثر إحكاما ونضجا لحل الصراع قد يتطلب فحصا أكبر للمصطلحات وللأوضاع (التي نشأ عنها الصراع)".
إنّ التركيز على طرف دون آخر من الصراع في غزة، والتركيز على قضايا متغيرة، بدءا من سلاح المقاومة، للكهرباء، للمجاري، لحقوق الإنسان، للموظفين (تارة من عينتهم "حماس" وتارة من كانوا قبلها)، وسوى ذلك من المشكلات، هو ناتج عن التفاعل اليومي مع الحدث، والتعاطف مع الضحايا أحياناً، أو الانحياز لموقف سياسي أو آخر، تارةً، ولكن النتيجة كما يبدو، هي استمرار القفز من مشكلة لأخرى ومن أزمة لأخرى. وفي مؤلف جماعي لباحثين عدة، بعنوان "العمل مع الصراعات: مهارات واستراتيجيات للممارسة"، يقول المؤلفون لمن يريد حل صراع، "ربما تكون متحمسا للقيام بشيء ما بخصوص الصراع الذي تواجهه. ولكن الحقيقة الصعبة أنك قد تجعل الأمور أسوأ وتقوم بمخاطرة غير ضرورية إذا لم تخصص وقتا لتحليل الوضع". ويوضح المؤلفون، أنهم لا يتوقعون من الناس القيام بعمل أكاديمي معمق للتحليل، ولكنهم يحذرون من الغرق في التفصيل اليومي من دون رؤية واضحة.
يتم تجاهل أو تضخيم دور دول عربية وإقليمية في قطاع غزة، وذلك خوفاً من إغضاب هذه الدول أو سعياً للانتقاص منها ووضعها موضع الاتهام، لأغراض سياسية وحزبية، أو بسبب تشخيص معين للمشكلات. ويتم تجزئة القضايا (قضية الرواتب مثلا) التي هي جزء من مشكلات أخرى، والتي هي بحد ذاتها أجزاء عدة (موظفي حماس، وتفريغات 2011، وموظفي السلطة الأصليين)، أو الإشارة لموضوع سلاح المقاومة، من دون نظرة شمولية لموضوع المقاومة، وكذلك الكهرباء،...إلخ.
من غير المتوقع أن تقدم الأطراف المتصارعة، والإعلام التابع لها، رؤية محايدة أو تهدف للتشخيص بغرض التسوية والحل التوفيقي، بل سيسعى كل طرف لتسجيل نقاط ضد الآخر، وحتى عندما يضطر طرف للتنازل، فإنه يحاول جعل التنازلات في أضيق الحدود، ومؤقتة. لذلك فإنّ مهمة المستقلين، والباحثين، والأكاديميين، والمعنيين بالحل، القيام بتقديم رؤية موضوعية وتشخيص ما يؤدي للصراع ومواجهة من يقوم به، أكثر من الحديث عما يجب فعله لتحقيق المصالحة.  
اشتغلت مجموعات كثيرة فلسطينية، وغير فلسطينية، للوصول لمصالحة في غزة، ولكن الحقيقة أن هؤلاء وعلى الأغلب بحسن نية، هربوا من فكرة إصدار تحليل وضع محايد، بشأن ما يقوم به كل طرف، للتركيز على "ما يجب أن يحدث"، وتجاهل رؤية شاملة إلى "ما يحدث"، وربما آن الأوان لمراجعة هذه الآلية.

عن الغد الأردنية