احد مظاهر الاستقرار السياسي في الدول المتقدمة، على الصعيد السياسي، التداول السلمي للسلطة، والذي يجري عادة بعد إجراء الانتخابات العامة، ومع مرور الوقت، تشهد معظم الدول الديمقراطية (بالكاد لا توجد الآن دول غير ديمقراطية بالمعنى الغربي للديمقراطية أو المعنى الليبرالي) ثنائية حزبية، إضافة إلى الحراك والتجديد الداخلي، تجري عادة مداورة «ثنائية الحكم والمعارضة» بين حزبين أساسيين، أو تجمعين سياسيين، أحدهما يمثل اليمين السياسي والآخر اليسار، بالمعنى النسبي أو المتداول أو المتعارف عليه بالطبع للكلمة أو المصطلح. هكذا هو الحال في الولايات المتحدة منذ أكثر من مائتي سنة، تناوب على رئاسة البلاد ـ وهي تتبع النظام الرئاسي ـ خلالها أربعة وأربعون رئيسا، كانوا كلهم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، اللذين يداوران الحكم ليس في البيت الأبيض فقط، ولكن في الكونغرس، أي البرلمان الأميركي بمجلسي النواب والشيوخ. ونادرا ما تجاوز الرؤساء الأميركيون الولايات الرئاسية الثلاث، بمعدل ولايتين لرئيس جمهوري أو ديمقراطي مع ولاية إضافية لرئيس آخر من نفس الحزب، وفي اغلب الأحيان يتم التجديد للرئيس لولاية ثانية، فيما يفضل الناخبون التغيير بعد ولايتين أو ثلاث في العادة!
في بريطانيا، يمثل حزب العمال اليسار التقليدي والمحافظين اليمين التقليدي، كذلك في فرنسا هناك الديغوليون والاشتراكيون، وتقريبا نفس الأمر ينطبق على إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، اليونان، وحتى اليابان وكندا!
في دولنا العربية، هناك ثنائية خجولة، تتمثل في وجود حكم ومعارضة، ولا تداول للسلطة بينهما، بل إن تاريخ العلاقة بين الحكم والمعارضة يكاد يكون حافلا بالقمع والعداوة والحوار عبر العنف بأكثر من شكل ومستوى، كذلك على الأغلب لا يتمثل الحكم بحزب أو تجمع سياسي أو ما شابه ذلك، فهو قد يكون فردا رئيسا، أو عائلة مالكة، أو ما شابه ذلك.
ثم بعد أن انفتحت بعض المجتمعات العربية المركزية منذ ربيع العام 2011 ظهرت ثنائية جديدة عجيبة، حيث وجد الناس أنفسهم بين خيارين، أحلاهما مر: فإما اختيار حكم أو نظام حكم الفرد الحاكم المطلق، أو حكم الحزب الشمولي المطلق، بين نظام حكم العسكر أو الجيش ونظام حكم الإخوان المسلمين، وحين يفشل الشعب في الاختيار، تذهب البلاد إلى حرب طاحنة، بين نظام حكم عسكري مستبد وجماعات سلفية متطرفة، وتكون النتيجة تدمير البلاد وقتل العباد، ويضاف بذلك القتل والعنف والذبح إلى الاستبداد.
يتقلب المجتمع العربي على جمر نار التخلف وثنائية القهر والاستبداد أو على عملة ذات وجهين قبيحين، ولا مناص من الذهاب بينهما إلى خيار تداول السلطة بإقامة دولة المؤسسات والقانون، دولة التعدد السياسي والتنوع العرقي، المذهبي والطائفي، على أساس المواطنة، أي الدولة الحديثة والعصرية والتي هي مثل كل دول الدنيا في الغرب والشرق، الشمال والجنوب، بكل معنى ومضمون وجوهر الكلمة.
سيظل العرب يكتوون بنار الجهل والتخلف، القمع والاستبداد متعدد الأشكال والمظاهر، إلى أن يدخلوا العصر والمجتمع الكوني، كمجتمعات، وليس كأفراد أو كجماعات، ليس كمهاجرين أو كضيوف أو كعابري سبيل، ليس كزوار أو سائحين أو مسافرين، بل كمقيمين، مثلهم مثل كل سكان الكرة الأرضية.
لكن دون ذلك مشوار طويل ومرير، من المعاناة والكفاح السياسي الدؤوب، ونحن الفلسطينيين في الحقيقة لا نشذ ولا نتميز عن أشقائنا العرب في شيء، بل ربما كنا أفضل حالا من بعضهم وأقل شأنا من بعضهم الآخر في الوقت ذاته، ذلك أن ثنائية الفلسطينيين ليست أفضل حالا، مهما قيل فيها من «شعر» أو مهما ألحق بها من «محسنات بديعية لفظية» فثنائية فتح/ حماس، لم تخفق وحسب في تحقيق المنجز الوطني، خاصة بعد انتفاضة عظيمة حدثت قبل نحو ثلاثة عقود، لكنها جرّت الويلات على الشعب الفلسطيني وعلى قضيته العادلة.
أخفقت هذه الثنائية أولا في إدارة معادلة الحكم والمعارضة كما يجب، ثم أخفقت في تداول السلطة بشكل سلمي، منذ العام 2006، وأكثر من ذلك شقت الوطن والشعب إلى نصفين، وأحدثت لأول مرة بهذه الحدة صراعا داخليا غطى على الصراع الخارجي مع إسرائيل، وأضعفته إلى أبعد الحدود، وما زالت هذه الثنائية تعجز عن إيجاد حل للمشكلة، رغم الإجماع على أنها اخطر حالة تواجه الوضع الداخلي وتشل قدرته على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بفاعلية كافية لوضع حد له وإنهائه، ولأن المشكلة في طرفيها، فإن أسوأ ما فيها هو القول ان «حسم» الصراع بين فتح وحماس، أو حتى الاستمرار في إدارة اللعبة السياسية وفق مفرداتها وأبطالها من فصائل عاجزة بمجموعها عن أن تضع حدا للتآكل الداخلي فضلا عن الانطلاق للأمام، يمكن أن يحقق مكسبا للشعب أو للقضية، بل إن الأسوأ من ذلك هو ما يمكن أن يكون بديلا لهذه الثنائية من بدائل أسوأ، سواء في الضفة أو غزة، ذلك أن إسرائيل ترى انه ليس من مصلحتها أبدا أن يتولى قيادة الشعب الفلسطيني فصيل واحد، لأن من شأن ذلك أن يوحدهم ولو تحت القيادة الخطأ، لذا بات ضروريا لأحد ما أن يعلق الجرس، ويطلق بشارة ضرورة التحرر الداخلي من ثنائية الشلل الذاتي، حتى يمكن القول ان لحظة التحرر الخارجي قد اقتربت أو انه قد حان أوانها!
ظهور بوادر الفشل في صناعة الدولة
17 سبتمبر 2024