"أطباء بلا حدود" وجرحى مسيرات العودة... جهود إنسانية متميزة

thumb (4).jpg
حجم الخط

 

بعد الجمعة الثانية من انطلاق مسيرة العودة الكبرى في 30 آذار الماضي، زارنا في بيت الحكمة وفد من منظمة "أطباء بلا حدود"، حيث تحدثنا مطولاً عن عملهم المتميز في قطاع غزة، من خلال عدد من المراكز العلاجية التابعة لهم، والتي تقدم خدمات استثنائية في برامج الحروق والصحة النفسية، وتمَّ إضافة معالجة الإصابات التي تحدثها رصاصات القناصة الإسرائيليين من تفتيت للعظام، والعمل لتطبيب تلك الكسور وجبرها.

في تلك الزيارة كانت أعداد من يتلقون العلاج من جرحى مسيرات العودة حوالي 400 شخص، وهو عدد كبير نسبياً لمؤسسة تطوعية محدودة الكوادر والمراكز والميزانيات.

لم يمض على ذلك اللقاء شهر حتى تضاعفت الأعداد بشكل ملحوظ.. ولأن طريقي من البيت للعمل يمر من أمام المركز الرئيس للمنظمة في حي الرمال، فقد لفت نظري وجود اكتظاظ خارج المبنى من هؤلاء الجرحى، الأمر الذي شدَّني للتواصل مع الجهات المشرفة لإجراء حوار معها، ومعاينة المكان الذي يتلقى فيه الكثير من الجرحى العلاج، وبهدف الاطلاع على حجم العمل والتعرّف على نوعية الاصابات، وكيفية التعامل مع هذه الأعداد الكبيرة من الجرحى في ظل محدودية المكان والإمكانيات.

خلال الحديث مع السيدة "إليزابيث قُرُّس"؛ مسئولة المشاريع بالهيئة في قطاع غزة، وهي ألمانية الجنسية، أشارت إلى أن عدد الحالات التي ترعاها المنظمة حالياً على مستوى قطاع غزة تجاوزت 1358 جريحاً، وأن 99% من الإصابات هي بالرصاص الحي، مما يتطلب استدعاء الكثير من الأطباء الجرَّاحين والأخصائيين في التخدير وجراحة التجميل، والذين بلغ تعدادهم 50 طبيباً، جاءوا من جميع أنحاء العالم، إضافة إلى حوالي 200 طبيب وممرض وممرضة من الفريق الوطني العاملين في مراكز الهيئة الخمسة، والموزعة بين مناطق قطاع غزة من الشمال للجنوب.

وبالرغم من تضخم الأعداد وانتظار الكثير منهم لساعات حتى تتاح لهم فرصة تلقي العلاج، إلا أنهم يشعرون أنهم بين أيدٍّ أمينة وخدمات متميزة حتى من ناحية توفير المواصلات لهم من منازلهم إلى تلك العيادات، والعودة "مسيَّد مكرم" بعد تلقي العلاج.

إن هناك من الإصابات ما يعتبر حالات بسيطة، وقد يأخذ علاجها من الوقت ستة أشهر، ولكن هناك الكثير من الإصابات التي تحتاج إلى سنتين أو أكثر وخاصة "تفشش" أو تشظي العظام.

من المعروف أنه يتم إجراء العمليات الأولية في المستشفيات، مثل: مستشفى الشفا ومستشفى الأقصى وأصدقاء المريض، حيث يعمل العديد من الكوادر الطبية التابعة للمنظمة، وبعد ذلك تبدأ متابعة الحالات من خلال العيادات التابعة للمنظمة في المناطق السكنية المختلفة.

أطباء بلا حدود... نبذة تعريفية

بدأت منظمة "أطباء بلا حدود" عملها في الأراضي المحتلة عام 1989، وقد عالجت مراكز الحروق والإصابات البليغة التابعة لمنظمة "أطباء بلا حدود" في قطاع غزة أكثر من 4,231 مريضاً معظمهم من الأطفال. كما ضمَّدت الطواقم أكثر من 52 ألف جرح، ونفذت أكثر من 26 ألف جلسة علاج طبيعي، وألف جلسة علاج وظيفي. كان معظم المرضى يعانون من الحروق، وخاصةً تلك الناجمة عن الحوادث المنزلية التي تقع في البيوت المتضررة من النزاع.

تدير المنظمة ثلاثة مراكز في مدينة غزة وخانيونس وبيت لاهية، وكان آخرها قد افتتح أبوابه في يوليو من هذا العام. هذا وكانت حملة التوعية بالحروق التي نفذتها فرق "أطباء بلا حدود" عام 2016 قد غطت أكثر من 35 ألف طفل في المدارس ورياض الأطفال ودور الحضانة.

كما أجرت برامج الجراحة التي تديرها المنظمة في مستشفي الشفاء والنصر بالتعاون مع وزارة الصحة ما مجموعه 275 عملية جراحية كانت 71% منها لأطفال دون سن السادسة عشرة.

أما الحالات المعقدة التي لا يمكن علاجها في غزة فتُحال إلى مستشفى الجراحة التقويمية الذي تديره المنظمة في الأردن. لكن نظراً للتأخيرات الإدارية لم يتم إحالة سوى تسعة من أصل 77 مريضاً خلال عام 2016.

السيدة ماري إليزابيث إنجرس؛ ممثلة المنظمة في فلسطين، وهي فرنسية الجنسية، أشارت بأن الفرق الطبية التابعة لهم تعمل على مدار الساعة، حيث إنها ومنذ الأول من إبريل تقدم الرعاية الجراحيّة وما بعد الجراحيّة للبالغين، والشباب، والنساء، والأطفال، وهي ماضية في عملها.. وحول الأحداث التي وقعت في يوم 14 ايار الماضي قالت: "ما حدث مجدّداً اليوم غير مقبول وغير إنساني. إن عدد القتلى الذي قدمته السلطات الصحية في غزة مساء الاثنين - 55 قتيلاً و2271 جريحًا - من بينهم 1359 بالذخيرة الحية صاعق. لا يمكن تحمل مشاهدة هذا العدد الهائل من الأشخاص غير المسلحين الذين يتم إطلاق النار عليهم في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن.

د. تييري سوسييه، جرّاح عظام يعمل مع المنظمة في غزة، يشرح مدى صعوبة الاعتناء بمئات الجرحى المصابين خلال احتجاجات الأسابيع الأخيرة، حيث تفرض الإصابات الخطيرة للغاية تحديات أمام الجرّاحين وتتطلّب أشهر، بل إن بعضها قد يتطلب سنوات من الرعاية أحيانًا.

وحول نوعية الإصابات التي تعامل معها مع هؤلاء الجرحى في غزة؟ أجاب د. تييري: نرى في الغالب الجروح الناجمة عن الطلقات النارية، والتي تكون في أكثر من 95% من الحالات في الأطراف السفلية، بما فيها الركبتَين. كما نجد بعضاً من هذه الجروح في البطن والأطراف العلوية. وأضاف: إن أكثر ما يثير الذهول لدى الذين عايناهم خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة هو جرح مخرج الرصاصة، فعندما تخترق رصاصة الجسم، تُحدث دوماً جرحاً ينجم عن خروجها من الجسم ويكون أوسع قليلًا من الجرح الناجم عن دخولها. ولكن، يُعطي جرح مخرج الرصاصة لدى المرضى الذين نعالجهم في عيادات رعاية ما بعد الجراحة إشارة على التلف غير الاعتيادي للأنسجة الرخوة والعظام داخل الجرح. إن جُرح مخرج الرصاصة واسع بطريقة غير متناسبة، وقد يصل إلى حجم القبضة أو حتّى اليد المفتوحة.

ويصعِّب بالتأكيد إصلاح هذه الجروح، وغالباً ما تتطلّب عمليات زراعة لاحقة. وفي نصف الحالات التي تصلنا، تصل الرصاصات إلى العظم، فتتسبّب بكسور متعدّدة، ما يعني أنّ العظم يحوّل حرفياً إلى غبار.

وأوضح د. تييري قائلاً: إن الرصاصات تتسبب أيضاً بتمزقات متعدّدة وغير منتظمة في الأنسجة الرخوة (الجلد والأوتار والعضلات والأعصاب والشرايين)، ما يعني أنّ تدفق الدم يكفّ عن الوصول إلى هذه الأنسجة، ما يولّد بدوره مخاطر عالية للعدوى. وإن لامست الرصاصة العصب الوركي، فتتسبّب بالشلل وهو أمر لا رجعة فيه، أمّا عندما يكون هناك جرح شرياني، فهذا معناه وجود خطر يهدّد الحياة، وغالباً ما يؤدّي ذلك إلى البتر.

وحول أنواع الجراحة التي يجرونها لهؤلاء الجرحى، أجاب د. تييري: فيما يخصّ جروح الساق، نجري بشكل أساسي تنظيفاً للجرح؛ أي أنّنا نزيل الأنسجة الميتة، وعندما يُصاب العظم، نقوم بوضع المثبتات الخارجية، ولا يمكن عادةً إصلاح الأعصاب والعضلات والأوتار في موقع حالات طارئة. وبما أنّ الجروح بالغة للغاية، يصعب في أغلب الأحيان تحديد الأنسجة داخل الجرح. وأحيانًا، تكون غير موجودة ببساطة، بحيث إنّ الرصاصة دفعتها بعيدًا. لا يمكننا التعرّف دوماً على النظام التشريحي الطبيعي، بما أنّ التفاصيل التي تبحث عنها لم تعد موجودة. يجدر بنا أن نشقّ الجزء العلوي أو السفلي من الجرح، لنجد قاعدة العصب أو الوتر أو الوعاء الدموي. ويشبه الأمر الجراحات التي نجريها على جروح الحرب.

وأضاف: إن إجراء الجراحة معقّد للغاية، ويمكن للعمليات الجراحية أن تستمر لعدّة ساعات، كما أنّها معقّدة بسبب الافتقار لبعض المواد والتجهيزات. اليوم، هناك - للآسف - مستشفى واحد في غزة يمتلك التجهيزات اللازمة لزراعة الجلد، وأنا شخصياً أحضرت معي عدة الجراحة الدقيقة الخاصة بي، والتي تشمل الخيطان الجراحية والعدسات المكبّرة. إنّ الفرق التي نعمل معها في مستشفيَي الأقصى والشفا هي فرق مؤهلة، والتعاون بيننا جيّد.

وفيما يتعلق بالمخاطر الصحية والعواقب طويلة الأمد التي يواجهها الجرحى، أوضح د. تييري قائلاً: هناك خطر حدوث مضاعفات، وبالأخص الالتهابات، وهذه مسألة نسبة توقعها عالية لهذه الأنواع من الإصابات، وهناك أيضاً خطر عدم قدرة العظم على النمو من جديد بعد أن دمّرته رصاصة، ويضحي دوماً أقصر مقارنةً به في الطرف الآخر. وبالرغم من تحقيق الاستقرار النسبي في حالة المرضى من خلال العمليات الجراحية الطارئة، إلا أنّ معظم المصابين بحاجة إلى عمليات إضافيّة. وبالطبع، يلي ذلك أشهر، لا بل سنوات أحيانًا، من إعادة التأهيل.

غالبية الجرحى؛ أي الذين أصابت الرصاصات عظامهم ومفاصلهم وأعصابهم وشرايينهم، سيعانون من آثار جانبية نتيجة لهذه الإصابات لبقية حياتهم، وقد تشمل تقصير الأطراف بسبب الكسور؛ والتصلّب نتيجة إصابات المفاصل؛ والشلل نتيجة إصابة الأعصاب؛ وضيق الأوعية الدموية عندما تطال الإصابة الشرايين، ما يستدعي البتر أحيانًا.

من الجدير ذكره، إن التشخيص الوظيفي خطير للغاية لدى جميع المرضى الذين رأيناهم، وهذه الإصابات تُدمّر من دون أدنى شكّ حياة الجرحى. سيعيشون معها على المدى الطويل مع غياب أي ضمانة باستعادة القدرة الجسدية الكاملة يوماً.

وهذا ما أكدته السيدة ماري إنجرس، حيث أشارت إلى أغلب الجرحى في عياداتنا يعانون من إصابات بعيارات نارية، حيث دمر الرصاص الحي فيها الأنسجة بعدما سحق العظام!! وهو ما يستدعي من هؤلاء المرضى إجراء عمليات جراحية معقدة للغاية، كما وسيعاني معظمهم من إعاقات طوال حياتهم. وأضافت السيدة إنجرس: إن التعامل مع هذه الإصابات أمر صعب للغاية، حيث إن المرضى غالباً ما يحتاجون إلى جراحة إضافية وعلاج طبيعي طويل جداً، وكذلك العمل على إعادة تأهيل المصاب. للأسف إن هذه الإصابات ستترك قصوراً وظيفية دائمة لدى الكثير من هؤلاء المرضى، وقد يحتاج بعضهم إلى عمليات بتر إذا لم يتم توفير العناية الكافية لهم في غزة، ولم يتمكنوا من الحصول على التصريح اللازم للعلاج خارج القطاع.

ولمواجهة التدفق الهائل للمصابين، قامت المنظمة بتعزيز قدراتها وزادت عدد الأسرّة في عيادات ما بعد الجراحة، كما عيّنت ودرّبت طاقماً طبياً إضافياً. كما ستفتتح عيادة رابعة قريباً في منطقة وسط غزة لتوفير الرعاية المتخصصة اللازمة.

واستجابة للأزمة، نشرت المنظمة فريقاً من الجراحين (بما في ذلك جراحي الأوعية الدموية وجراحة العظام والترميم) واختصاصي التخدير، لإجراء العمليات – وإعادة بعض العمليات - على الحالات الأكثر خطورة، ويعمل هذا الفريق حالياً جنباً إلى جنب مع الطاقم الطبي الفلسطيني في مستشفيي الشفاء والأقصى.

إن مشاهدة عيادة الرمال التابعة للمنظمة بما فيها من وحدات علاجية مختلفة، وأطقم طبية من أطباء محليين وأجانب، يشي بحجم الدور الاستثنائي والإنساني الذي تلعبه هذه المنظمة العالمية في تقديم العلاجات اللازمة لجرحى مسيرات العودة، خاصة في الوقت الذي تعاني فيه مستشفيات قطاع غزة من نقص في الأدوية والطواقم المدربة على مثل هذا النوع من الإصابات.

وجوه كثيرة من هؤلاء الأطباء الأجانب شاهدناها في تلك العيادات وفي مستشفى الشفا والأقصى، وهي تعمل بهمة ونشاط وبمستويات إنسانية راقية، تستحق منا كفلسطينيين كل الشكر والتقدير.

لقد تابعت العديد من حالات الإصابة لبعض المعارف والأصدقاء، حيث أشاد الجميع بمستوى العلاج والمتابعة والعناية الصحية التي تقدمها عيادات "أطباء بلا حدود"، والتي جعلت الكثيرين يقبلون عليها، ويفضلون تلقي العلاج عندهم، وخاصة في إصابات الحروق وكسور العظام.

لا أنسى ذلك الموقف لحفيدتي التركية "ملك كايا"، وهي طفلة صغيرة لم تبلغ الرابعة من عمرها، والتي أصيبت بحرق في قدمها، وكانت تتردد على عيادة الرمال لتلقي العلاج.. ذات يوم جلست إلى جانبي وأنا في طريقي للعمل، وفجأة وبينما نحن نمر من أمام عيادة المنظمة، صاحت ببراءة وهي تشير للمكان بفرح: "هيههههه.. أطباء بلا حدود بدِّي أجيب إلهم ورد..".

زيارة المصابين... وجوه تبكي الوطن

كان علينا أن نستكمل لقاءاتنا بالمسئولين في المنظمة الطبية العالمية (MSF)، وذلك بالمرور على أقسام ووحدات العلاج بمركز الرمال، والتعرف عن قرب على أشكال الإصابات ومعاناة الجرحى.

خلال تجوالنا في المكان وجدناه مكتظاً على غير العادة، بالرغم من قيام المنظمة باستئجار بناية مجاورة من طابقين، بهدف استيعاب الأعداد الهائلة من المصابين، والأقسام التي تمت إضافتها ولها علاقة بمعالجة الكسور وجراحة التجميل.

لم أشعر أن هناك من بين الجرحى من يأسف لأنه أصيب، فالقناعة متوفرة أن هذا فعل نضالي مطلوب، وطالما أن هناك احتلالاً فالمقاومة فرض عين على الجميع، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، وهذه هي سنَّة الحياة.. هناك الآلاف ممن سقطوا شهداء، ومثلهم من الجرحى والأسرى، ولن يتخلف أحد عن أداء واجبه الوطني. التقيت أحد هؤلاء المصابين، وقد عاود المشاركة في فعاليات مسيرة العودة عن قناعة وإصرار، وقال لي: انظر ستمضي تلك المسيرة إلى أن تبلغ غايتها، والاحتلال - كما كل الاحتلالات - سيرحل يوماً ما، وسوف تكون لنا دولة ننعم فيها بالعيش بأمان كباقي الشعوب والأمم.

هذا المعنى وهذه القناعة، هي الروح التي نلمسها في هؤلاء الشباب؛ سواء من زرناهم في المستشفيات أو التقيناهم في الساحات على الحدود، فعزائمهم تذكرنا بتلك العبارة الشهيرة للقائد الليبي عمر المختار: لن نستسلم؛ ننتصر أو نموت.

حقيقة، هناك شعور بالفخر والانتماء الوطني لدى هؤلاء الشباب، وأن هذه الإصابات التي أقعدت الكثير منهم إنما هي شهادة على التفاني والتضحية من أجل القدس وفلسطين، وضريبة دم على طريق التحرير والعودة.

لقد أظهر هؤلاء الشباب الفلسطينيين الذين قادوا مسيرات العودة رجولة استثنائية في المواجهات مع قناصة الاحتلال وطائراته التي تلقي بقنابل الغاز عليهم، كما أبدع بعضهم في استخدام أدوات المقاومة السلمية، التي أغاظت جيش الاحتلال وأربكت حساباته، فكانت ردَّات الفعل الطائشة، والتي جلبت الكثير من الانتقادات للجيش الإسرائيلي في وسائل الإعلام الغربية والمحافل الدولية.

تحدثت مع بعض هؤلاء الشباب، حيث وجدت لديهم تسليم ورضى بما كتبه الله لهم، وتمنيات أن تؤتي هذه المسيرات أكلها، فينتهي الانقسام ويُرفع الحصار، ويجتمع الشمل بين الكل الفلسطيني.

وفي لحظات، وأنا أتفرس في وجوه هؤلاء الشباب، تذكرت انتفاضة كانون الأول 1987، والتي كنت فيها كباقي الأطفال والشباب في المخيمات نحاول - من خلال الفعاليات التي نقوم بها - إثبات أننا شعب يستحق الحياة.. لقد كنا نردد قبل تلك الانتفاضة: "سينهض من صميم اليأس جيلٌ... قوي البأس جبارٌ عنيد"، وقد شاهدنا فعلاً ذلك الجيل وهو يقود الانتفاضتين؛ انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى، ويسجل للتاريخ بملاحمه وتضحياته وبطولات شبابه وأطفاله صفحاتٍ نعتز بها حقيقة ونفخر على العالمين.

اليوم، هؤلاء الشباب الذين يقودون مسيرات العودة هم أيقونات ذلك الجيل، وصنَّاع مشاهد البطولة بتضحياتهم وتفانيهم وبمقاومتهم السلمية التي تغيظ الأعداء.

غادرت المكان، بعد أن سلَّمت على العديد من بين هؤلاء الجرحى، وربتُّ على أكتافهم بإعجاب.. وقلت في نفسي: أتمنى ألا تضيع كل هذه الدماء هدراً. لقد سمعت أحدهم يقول: "إذا كانت ساقي هي الثمن لوحدة شعبنا وتصويب بوصلته النضالية، فلن أبكي على تضحيتي، أما أن أخسر ساقي ومعي المئات أمثالي ولا يتحقق شيء على المستوى الوطني أو يتغير، فهذا ما يستوجب الأسى، ويستحق منا أن نحزن على ما فقدناه".