وجبة سريعة ومسليّة اسمها «الرئيس مفقود»...!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

لن يجادل أحد في حقيقة أن الوجبات السريعة طيّبة المذاق، وإن كانت غير صحيّة. لا بأس، في الثقافة، والسياسة، ما لا يحصى من الوجبات السريعة، القليل منها طيّب المذاق، وكلها غير صحية. ولنفكر في مجاز كهذا في معرض الكلام عن رواية للرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، بالاشتراك مع جيمس باترسون، صدرت في الرابع من يونيو (حزيران) الماضي بعنوان "الرئيس مفقود".
الرواية تزيد عن خمسمائة صفحة، وعلى الرغم من حجمها إلا أن فيها كل ما يُفسِّر رواج الوجبات السريعة، إذ يصعب إضافة الملل إلى قائمة قد تطول أو تقصر مما ينتاب القارئ من مشاعر في زمن القراءة. فقد توفّرت فيها كل مقوّمات، وتوابل، الرواية البوليسية الناجحة.
لدينا، في اللغة العربية، مشكلة في وصف وتعريف هذا الجنس الأدبي، فثمة قائمة طويلة من روايات الإثارة، والجريمة، والعلم، والتجسس، والتحليل النفسي، التي غالباً ما تُختزل في تعبير الرواية البوليسية. وحتى تتمكن اللغة العربية، في يوم ما، من تعيين حدود واضحة بين مختلف ضروب هذا الجنس الأدبي، فلنقل أن توابل مختلفة من هذه الأشياء كلها قد اجتمعت في رواية كلينتون وباترسون.
وإذا كان في مجرّد وجود اسم رئيس أميركي سابق على غلاف رواية، ذات عنوان مثير، ما يضمن لها قدراً من الرواج، فإن في وجود اسم أحد أشهر كتّاب روايات الإثارة، في الولايات المتحدة، ما يضمن لها مكانة مرموقة في سوق النشر والتوزيع، وما يضمن لناشرها وكاتبيها ملايين الدولارات.
فالمُباع، في العالم، من كتب الأخ باترسون يبلغ ثلاثمائة وسبعين مليون نسخة. وإذا جاز الكلام عن إسهام الشريكين في الرواية المشتركة، فمن المؤكد أن باترسون نسج الحبكة، ووضع الهيكل العظمى للرواية، بينما أسهم كلينتون، بما حفظت ذاكرته من مهنة الرئيس، وفنون الرئاسة، في عمارة الغلاف الخارجي للهيكل.
ولا ينبغي، في كل الأحوال، استبعاد إسهامات إضافية من جانب مُحررين، ومراجعين، ومستشارين، فضوابط، وخصوصيات، سوق النشر، في الغرب، تبرر القول إن كثيراً من الكتب، حتى وإن حملت اسم مؤلف واحد، ليست في حقيقة الأمر سوى نتاج عمل جمعي.
 والمعروف عن باترسون، الذي ينشر رواياته، عادة، بالاشتراك مع آخرين، أنه لا يكتب بل يقدّم الحبكة، والهيكل العظمى، ويُلقي على الآخرين عبء الكتابة، وملء الفراغات. لذا، تتسم أعماله بتفاوت المستوى اللغوي. ويُطلق عليها النقّاد تسمية "روايات المطار"، التي يشتريها الناس وقت السفر، لقضاء ساعات من الفراغ القسري، دون الإصابة بالملل.
ولنبق، إذاً، في موضوع الحبكة، والهيكل العظمي. ولستُ، هنا، بصدد تلخيص الرواية، فأسوأ ما يمكن أن يفعله قارئ لعمل ما أن يتطوّع بتلخيصه لآخرين. لذا، تتمثل جدوى البقاء في إعادتنا إلى موضوع الوجبات السريعة.
ففي الرواية المذكورة ـ التي قلنا إن أشياء كثيرة قد اجتمعت فيها ـ تتجلى، أيضاً، ملامح التيار الرئيس في الرواية البوليسية لغرب ما بعد الحرب الباردة. فملامح التيار الرئيس في زمن الحرب الباردة ـ بصرف النظر عن الحبكة، والشخصيات، وكفاءة اللغة والسرد ـ ارتسمت في سياق الصراع بين "العالم الحر"، وعالم "الستارة الحديدية"، واستمدت منه كل التوابل الضرورية لإعادة إنشاء قصة الصراع بين "الخير" و"الشر"، التقليدية، وهي قديمة قدم الإنسان.
والواقع أن التحفّظ إزاء هذه التسميات، ووضعها بين مزدوجين، يصدر عن حقيقة أن أشياء كهذه غير ثابتة، أو مستقرّة، في التاريخ، بل تتبدل بتبدّل الأزمنة، والحاجات، والغايات. وقد نشأ فراغ هائل بعد نهاية الحرب الباردة عندما فقد "الشر" القديم ممثليه، والمدافعين عنه، والناطقين باسمه. فالاتحاد السوفياتي اختفى من الوجود، والشيوعية فقدت صدقيتها، و"الخير" انتصر إلى حد أن التاريخ نفسه وصل خط النهاية، كما في فرضية فوكوياما ذائعة الصيت.
ولنقل إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي كانت نقطة تحوّل في تاريخ العالم، كانت نقطة تحوّل في تاريخ الرواية البوليسية، أيضاً. فقد كان في وسع حدث بهذا الحجم، توليد ما لا يحصى من الدلالات لتمكين التيار الرئيس من إعادة التموضع وإنتاج "الخير" و"الشر" تحت عنوان عريض اسمه الإرهاب، حيث يؤدي "الإسلام" والمسلمون" أدوار الشيوعية والشيوعيين الروس في زمن مضى، ويتحوّل الشرق الأوسط، إلى ساحة صراع جديدة حلّت محل ساحة قديمة في أوروبا الشرقية والوسطى.
مرّة أخرى، ثمة ما يبرر وضع مفردات من نوع "الإسلام" و"المسلمين" بين مزدوجين، فكلتاهما تعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. ولا يمكن، في كل الأحوال، تجاهل أن جانباً يصعب إنكاره، أو التغاضي عنه، مما يندرج في باب الإرهاب، اليوم، يبرر نفسه بالإسلام، ويُرتكب بأيدي مسلمين.
ومع هذا كله في الذهن، إلا أن الواقع أكثر تعقيداً، فالإمبراطورية أبرع وأبشع في ممارسة الإرهاب من غيرها، ولكنها تفوق الآخرين كفاءة في تفسيره وتبريره. المهم أن رواية الحرب الباردة البوليسية كانت جزءاً من نظامها الثقافي والسياسي، فإيان فليمنغ، وجون لوكاري، مثلاً، اشتغلا في المخابرات قبل التفرّغ للكتابة.
والمهم، أيضاً، أن رواية ما بعد 11 سبتمبر، لم تغيّر البطانة الأيديولوجية، بل غيّرت الأقنعة. فبدلاً من مجابهة الديمقراطيات الغربية للبربرية الآسيوية بقناعها الروسي، تجابه، الآن، البربرية الآسيوية ولكن بقناعها الإسلامي (العربي، والإيراني، والتركي) الجديد، وفيها كل ما شئت من هذه التوابل، دون نسيان الروس، طبعاً، فالأخ باترسون طبّاخ ماهر، استعان بكل ما في المطبخ القديم، وبما استجد، لتقديم وجبة سريعة، مسلية فعلاً، وغير صحيّة تماماً، اسمها "الرئيس مفقود".