باريس... حيث يتعانق التاريخ مع الأدب والجمال

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

ذات مرة، قال الكاتب الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل إن «على الكاتب السياسي أن يزور واشنطن ولو مرة واحدة وينظر للعالم من تلك الزاوية ليرى كيف تصنع السياسة الدولية» هذا باعتبار واشنطن عاصمة السياسة الدولية وصاحبة قرارها وليكتب برؤية أكثر وضوحاً، وفي هذا القول كثير من الدقة بالتجربة حين زرت واشنطن قبل سنوات مستكشفاً لأعرف أن السياسة تُصنع هناك بعيداً عن منطق التفكير العربي المدجج بالعواطف والفقير من قدرة استغلال الإمكانيات واحتراف السياسة.
لكل مدينة لونها ورائحتها ونكهتها الخاصة، ولا واحدة تشبه الأخرى لأن فرادة تجربة أية واحدة تختلف عن غيرها. وحين عزمت على زيارة باريس كنت أعتقد أنني سأتسمر أمام واحدة من أهم الحروب الكونية التي أعادت صياغة العقل السياسي العالمي لما دارت عليها من أحداث لم تحمل غير الدم والدموع في دولة تحولت إلى ركام وظلت محافظة على تاريخ الجمال الذي تضج به المدينة التي تعتبر بنظر الشرق مدينة الحب والجمال. فقد أعادت الحرب العالمية الثانية صياغة العقل البشري من جديد حين تعرضت لصدمة الدمار والموت بالملايين على أيدي البشر، وكانت آخر الحروب التي يتقابل فيها جندي أمام جندي وجهاً لوجه ودبابة مقابل دبابة وما قبل تلك الحرب ليس كما بعدها في كل شيء.
تصورت أنني سأرى المارشال «بيتان» وهو يسير من تحت قوس النصر عائداً من معارك الحرب العالمية الأولى بكامل انتصاره وزهوه، وتصورت بأنني سأجده بكامل انكساره عائداً من محطة «كومبين» للقطارات منهكاً وقد وقّع اتفاقية استسلام فرنسا وهو بطلها الأول قبل ربع قرن فقط، وتلك كانت تمثل ذروة مدرسة الواقعية السياسية لكاتب مثلي، فالبطولة والانتصارات تصنعها القوة والإمكانيات لا الشعارات والتمنيات، وأن السياسة والاتفاقيات هي انعكاس لحركة الجيوش على الأرض وتقدم الدبابات، لأن بطل النصر في باريس كان نفسه بطل الهزيمة.
في باريس تجسدت حكمة التاريخ وعادت السياسة آنذاك تقف على قدميها بعد أن طحنت أوروبا نفسها وفقدت أبناءها لتخرج بصدمة ما زالت آثارها في كتب التاريخ، لأن منظومة القوانين التي أعيدت صياغتها كانت تقطر دماً، بل ووضعت في كل سطر من صفحاتها، كيف لا تتكرر تلك التجربة المريرة في التاريخ وقد تمكنت فعلا من الاستفادة من تجربتها والولادة من جديد، فيما ما زال الوطن العربي يطحن نفسه بلا رحمة، معتقداً أن الخلاص في الموت والدمار دون أن نقرأ تجارب الشعوب.
أن تذهب لاكتشاف التجربة متأخرا أكثر من سبعة عقود لا تجد سوى بقايا خيالات، وتجد شيئا مختلفا في مدينة قرر الفوهرر ألا يدمرها احتراماً للجمال الذي تجده في كل شوارع المدينة التي يحتضنها نهر السين حارساً ومزهواً في مدينة شكلت سحراً للشرق في كل تفاصيلها.
الحي اللاتيني قلب باريس النابض والذي احتضن كل رواد النهضة العرب في مقاهي الأرصفة التي وزعت ثقافتها على فرانكوفونيات تركت فرنسا بصمتها عندما كانت قطباً دولياً تزاحم الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس وتحتل البلدان، وفي هذا الحي لا بد أن تفتش عن طه حسين وعباس العقاد وكثير ممن كان لهم فضل في رحلة النهوض العربي قبل أن تنكسر على يد الوطنيات المحلية، ولكن هناك عليك أن تقف تحت لافتة مكتوب عليها «ساحة محمود درويش» حيث المقهى الذي كان يرتاده شاعرنا الكبير في ذلك الحي، لقد كرمت فرنسا الشاعر بما يليق  بتسمية ساحة باسمه.
على مقربة من الحي تنتصب كبرى معالم أوروبا، كنيسة نوتردام المنحوتة على واجهتها على ارتفاع شاهق كل مجسمات ملوك أوروبا تحفظ تاريخها، وهي التي كتب عنها الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو رائعته «أحدب نوتردام» وهو صاحب رواية «البؤساء»، فقد قدمت باريس نوعاً خاصاً من الأدب العالمي، ومن يزُر تلك المدينة يعرف أن مكاناً بهذا الجمال من الطبيعي أن يُنتج كل هذا الأدب من فيكتور هوغو، فولتير، فاليري، بودلير، راسين، كوبيه، وغيرهم. وكما قال أرنولد تويني حين وقف على مشارف القدس مندهشاً «يا لهذه المدينة، من الطبيعي أن تخلق الأنبياء» هذا يصل له أي زائر لباريس ليعرف أن هذه المدينة لا بد وأن تخلق الأدباء.
باريس مدينة صاخبة تضج بالحياة التي تنبض بتفاصيلها ورغم ازدحامها فإن بها من المساحات الخضراء ما يتسع للمتعبين من المشي واكتشاف المدينة مثلي أيضاً. ساحات تاريخها «تروكادير» والمطلة على برج ايفل تحفة المدينة وساحة قوس النصر «اتوال» وساحة «الكونكورد» التي تقف بها المسلة المصرية والأخيرتان تتوسطان شارع الشانزليزيه الأشهر في هذه المدينة.
غريب حقاً أن تجد معالم الملوك والرهبان والأديرة لتعرف أن جزءاً عريقاً من الإرث الفرنسي صنعته الباباوات. هذا يمكن ملاحظته من عظمة الكنائس ونقوشها، لكن المدهش أن لا تجد رمزاً واحداً للثورة الفرنسية ولا تمثالاً لقادتها ولا شارعاً باسم أحدهم، فالتماثيل تملأ باريس وغيرها من المدن لقادة عسكريين وملوك وأدباء وفنانين، لكن لا تمثال ولا شارع باسم «روبسبير» قائد الثورة ولا «سانج جوست» ولا» دانتون». وفي هذا ما يثير السؤال، هل لأن الثورة علقت المشانق واستباحت الدم وأحرقت جزءاً من تاريخ فرنسا باسم الجديد وجرى اعتقال المعارضين، وفي هذا درس فرنسي أكثر بلاغةً من درس الواقعية السياسية التي تقول بأن الثورة عندما تتحول إلى جلاد في حالة قمع تصبح في حالة عداء مع الشعوب. وهذا درس آخر لمن يزور باريس مثلي مستكشفاً.