آخر المبادرات.. آخر الفرص

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

ثمة ضرورة وطنية ملحّة تستدعي من الكتّاب والصحافيين، والمثقفين ورجالات المجتمع، والشباب، لأن يكثفوا في هذه الأيام بالذات تدخلاتهم، وآراءهم، ورسائلهم، إلى قيادات المرحلة السياسية والفاعلين في صناعة القرار الفلسطيني. لا ينبغي لهؤلاء أن ييأسوا ولا يحق لهم ذلك، حتى لو أن آلاف الرسائل والنصائح التي تعودوا إرسالها على مدار العقود السابقة، لم تصل إلى مسامع صناع القرار. لا يتعلق الأمر بمبدأ قل كلمتك وامش، أو توخ براءة الذمة، فالذمة الوطنية العامة على المحك، ولا ينفع أن يقول أحدهم في يوم ما: "أما قلت لكم". المسؤولية الوطنية تستدعي تدخل كل صاحب موقف ورأي ونصيحة، فلعل واحدة من كل عشر رسائل تصل إلى صانع القرار، لوضعه أمام مسؤولياته.
نتحدث عن خطورة الأوضاع السياسية التي تمر بها القضية الفلسطينية دون التشكيك في مواقف القيادات الفلسطينية في مواجهة تلك المخاطر، ولكن بعيداً عن المبالغات التي تُصدر أحكاماً قاطعة بأن الفلسطينيين قادرون على إفشال "صفقة القرن"، وإلحاق الهزيمة بالتحالف الأميركي الإسرائيلي في هذه المرحلة.
من غير المرجّح أن تنجح إدارة ترامب في تمرير مخططاتها الصهيونية بموافقة أو رضا أي طرف فلسطيني، لكن الفارق كبير وجوهري بين أن يواجه كل طرف هذه المخططات بمفرده، وبين أن يتوحد الشعب الفلسطيني خلف قيادة واحدة.
مع أن المسألة ليست لعبة، إلاّ أن اللعب السياسي أصبح على المكشوف؛ حيث لم يعد ضرورياً أن تعلن الولايات المتحدة رسمياً "صفقة القرن"، التي باتت مفاصلها وأهدافها أكثر من واضحة.
الصحافة العبرية والأميركية تتحدث علناً عن مفصل قطاع غزة في "صفقة القرن"، بما ينهي التضليل الجاري منذ بعض الوقت بشأن النزعة الإنسانية للتحالف الأميركي الإسرائيلي الذي يلعب على وتر الأزمة الإنسانية التي يعاني منها قطاع غزة. لقد حان الوقت بالنسبة للتحالف الأميركي الإسرائيلي لحصاد الآثام، الذي يتجلّى الآن في محاولة تعميق الانقسام الفلسطيني والقفز عن الشرعية، بل عن كل الأطراف الفلسطينية، في إطار رؤية إقليمية لمعالجة قضية غزة. الحديث الصريح والمكشوف عن أبعاد التدخل والحراك الأميركي تحت عنوان معالجة الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، يشكل امتحاناً حقيقياً لوطنية الفاعلين السياسيين الفلسطينيين. لن يخدع أحدٌ الشعب الفلسطيني برفع الشعارات الوطنية، وربما المتطرفة في مواجهة "صفقة القرن"، بينما يكون السلوك العملي مغايراً.
مقياس الوطنية الفلسطينية اليوم، ليس بمقدار ما ترفع من شعارات وتطلق من تصريحات وإنما بمقدار الالتزام بالسعي نحو توفير مقومات وأدوات المجابهة الحقيقية، التي قد لا تبلغ هدف إفشال "صفقة القرن"، ولكنها تختصر الزمن والثمن وتعظم العقبات أمام إمكانية نجاحها.
الموضوع اليوم هو موضوع المصالحة الوطنية، التي تبادر مصر إليها مرة أخرى، وربما تكون أخيرة، في ضوء سرعة وجدية التحرك الأميركي الإسرائيلي. في هذه المرة لن يكون بمقدور أحد أن يلقي بتهمة الضعف أو الفشل الفلسطيني على العرب أو غيرهم؛ ذلك أن الفلسطينيين هم من يتحملون المسؤولية عن تسهيل نجاح بعض مفاصل "صفقة القرن"، والتي تشكل حلقة مفصلية في الإطاحة بحلم الدولة الفلسطينية، ووحدة الجغرافيا والسياسة.
يبدو أن على أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية أن تقف بتجرد وموضوعية أمام التجارب والمحاولات الفاشلة، وهي محاولات ومبادرات كثيرة لم تنجح في وقف حالة الانقسام والانهيار.
وعلى الأطراف الفلسطينية، أيضاً، أن تعطي الأولوية للمكاسب الوطنية حتى لو تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات والخسائر على طاولة الحوار الوطني.
ويترتب على كل طرف أن يجيب صراحة عن جوهر المشكلة والأسباب التي أدت إلى الفشل، ما إذا كانت في طبيعة الاتفاقيات التي يدعو الكل إلى الالتزام بها، أم أن الخلل في الآليات والأولويات، هذا إذا استبعدنا سوء النوايا، وطغيان الحسابات الخاصة على الحسابات الوطنية العامة.
لن ينجو مركب حمل نوعاً واحداً من المخلوقات، فالحياة تستدعي إنقاذ كل الأحياء، وبمشاركة كل الأحياء، صغر شأنها ودورها أم كبر.
الفلسطينيون كلهم في سلة واحدة، وأرجلهم في الفلكة، والبناء الشامل والشراكة الكاملة تقتضي مشاركة الكل الفلسطيني، حتى أن الانقسام لم يعد بين "فتح" و"حماس"، بعد أن طال كل مفاصل وتفاصيل حياة الفلسطينيين، ولأن الأمر كذلك فإن مسؤولية توفير العلاج ينبغي أن تكون مسؤولية الجميع.
نتمنى أن يكون مطلب الحوار الوطني الشامل مطلباً فلسطينياً يعكس إدراك الجميع لأهمية تصحيح الأخطاء السابقة. وبالإضافة فإن الخطوات المتدرجة نحو تحقيق المصالحة، دون أن تكون هذه الخطوات مترابطة وضمن رؤية شاملة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، ومرتبطة بآليات ورزنامة زمنية محددة، هذه كلها جرّبت وانتهت إلى فشل يستدعي التغيير.