"العرب" يعودون إلى حروب "داعش والغبراء"!

التقاط.PNG
حجم الخط

 

تنظر إلى خريطة الصراعات في ما كان يسمى، من باب التمني، "الوطن العربي"، فتخاف من حاضره "المبشر" بغد أسوأ وليس بذلك الغد الأفضل الذي حلمت به أجيال عرب القرن العشرين.

مضت أيام الزهو بالهوية العربية الجامعة، وحلم الوطن العربي الكبير المتطلع إلى وحدته بثقة الانتماء إلى الأرض وتاريخها السني وتضحيات أجيالها من أجل الحق بغد أفضل يليق بكرامة إنسانه.

هجرت الأجيال الجديدة أحلام الآباء والأجداد: الوحدة والحرية والإشتراكية... واندثرت معاني كلمات كانت تبشر بالغد الأفضل من مثل "العروبة" و "المصير المشترك" وصولاً إلى الوحدة التي يتجاوز بها الأقوام التي تستوطن هذه الأرض لتثبت حقها في صياغة حياتها بما يتناسب مع قدراتها وتضحياتها .. وليس فقط مع أحلامها.

حلت الخصومات والقطيعة التي وصلت أحياناً إلى حد الحرب محل رايات الأحلام الزاهية وتوكيد إرادة الأمة بالتلاقي من حول المصير المشترك.

تفرق العرب أيدي سبأ. ذهب بعضهم إلى الغرب الذي احتل بلادهم وصادر أحلامهم في غدٍ أفضل، وقاتلوا اخوانهم شركاء المصير... وذهب بعض آخر إلى "الشرق الشيوعي" لعله يجد حليفاً يسانده في مواجهة المشروع الإمبريالي.. وعندما سقط النظام الشيوعي ومعه الاتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي غرقت الأنظمة العربية في الضياع وعادت إلى موقع التابع للغرب الأميركي – الآن – في غياب إرادة التحرر والصمود وبناء الذات في قلب الصعب. تحول النفط (ومن بعده الغاز) من عنصر قوة إلى سبب جديد من أسباب التبعية ومصادرة القرار العربي الحر.. خصوصاً بعد جريمة اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود عندما حاول استخدام هذا السلاح المرصود، لمصلحة الأمة العربية وحماية مصالحها.

بل أن الغاز الذي استولد من شبه جزيرة فقيرة تلعب السياسة وكأنها لعبة قمار، "دولة تنفرد بقرارها فتخرج على الإجماع العربي وتعترف بدولة العدو الإسرائيلي، ثم تتمادى في غرورها فتسلم للأميركيين قاعدة فيها، ومن بعدهم ومعهم تسمح لتركيا أردوغان بإقامة قاعدة عسكرية ثانية.. وتنفر أكثر فتشتبك مع دول مجلس التعاون، بعدما كانت قد قاتلت سوريا بالأخوان المسلمين الذين احتضنتهم مع شيخهم القرضاوي فاشتبكت مع مصر.

وكان بديهياً أن تفيد الإدارة الأميركية، ثم "السلطان لأردوغان" من هذا الإشتباك الخليجي، بل الإنقسام العربي، فيتم احتضان شيخ قطر وحماية نهجه التقسيمي بل التخريبي، والذي يخدم بالدرجة الأولى العدو الإسرائيلي وهو العنوان الأبرز للمصالح الأميركية في المنطقة العربية.

***

ولعل هذا الطموح قد أغرى ولي العهد في دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد بأن يسعى إلى مد نفوذه في اتجاه اليمن الفقيرة، خصوصاً بعدما توطدت الصداقة بينه وبين الأمير محمد بن سلمان، الذي خلع أعمامه وأبناء أعمامه جميعاً لينفرد بولاية العهد في المملكة المذهبة... وهكذا فقد تساند المحمدان في الهجوم على اليمن وتدمير دولة الحضارة العربية الأولى: وكان ملفتاً ومثيراً للأسئلة اكتشاف أن لدى الإمارات جيشاً بطيران حربي ومدمرات وبوارج حربية وقوات مقاتلة تستطيع احتلال عدن ومنطقتها، ثم تندفع إلى احتلال جزيرة سوقطرة في بحر العرب، قبل أن تضطر إلى الخضوع لضغط من الدول ذات الأساطيل والتي تريد بحر العرب مسرحاً لحربها المحتملة ضد إيران.

بالمقابل فإن الطموح القطري يضاف إلى الاشتباك مع مصر ثم سوريا والاشتباك مع العراق بإرسال ثلة من جنودها على شكل "صيادين".. فلما اعتقلتهم بغداد وسجنتهم فعلت الدوحة كل ما بوسعها للإفراج عنهم، ما لم يتم إلا بعد سنتين أو يزيد، واعترافات صريحة تكشف بعض المخططات القطرية.

***

ذهبت أيام الطموح إلى الوحدة العربية وحماية المصالح المشتركة للأمة، وجاءت أيام شهدت تآمر العرب على العرب، وبخاصة عرب النفط والغاز على "العرب الفقراء"، مصر وسوريا مع محاولة الهيمنة على لبنان ودمجه في مخطط التوسع.

ويمكن لخبراء الاقتصاد في مصر أن يحاضروا في تأثير الحصار الذي فرضته دول الغاز والنفط للهيمنة على القرار السياسي في القاهرة.

أما في سوريا فلا داعي للمحاضرات، بل أن شهود الحال موجودون عن الأدوار المباشرة التي لعبتها بعض هذه الدول، في الحرب في سوريا وعليها، وتغذية "المعارضات "متعددة الولاء والاتجاه، بالمال والسلاح والتدريب والإيواء وتوفير المنابر الإعلامية لها، وتحريض الكفاءات على الهجرة، وتنظيم تلك المعارضات في جبهة (مع انها جبهات فيها من ولاؤه لتركيا، ومن هو رهينة السعودية، ومن يتخذ من قطر مقراً ومصدر تمويل وتسليح إلخ)..

بسحر ساحر تحولت دول النفط والغاز إلى مصدر تمويل وتسليح لقوى الإعتراض في العديد من البلاد العربية، وصولاً إلى ليبيا البلا دولة وتمددت نيران الفتنة في الأرض العربية.. وكان من السهل نسبة بعضها إلى إيران لإضفاء طابع مذهبي عليها، وطمس تنامي العلاقة مع العدو الإسرائيلي.. والفتنة السنية – الشيعية لا تحتاج إلى جهود شاقة لإشعالها سواء في العراق أو حتى في سوريا، فضلاً عن البحرين، وأخيراً في اليمن (بين الزيود والشوافع)..

والفتنة هنا تطمس الوجه السياسي للمشكلة، وتجعل من احتلال اليمن، مثلا، نصرة للشوافع على الزيود، ومن الفتنة في العراق نصرة للسنة على الشيعة، ومن الفتنة بالحرب في سوريا وعليها نصرة للسنة على العلويين (ومعهم الإيرانيون)..

***

وهكذا تطمس حقيقة الصراع، وتغلب الطائفية والمذهبية على الجوهر السياسي، ويضيع الناس في متاهات الفتنة!

.. وماذا يريد العدو الإسرائيلي أكثر تدميراً لوحدة الأمة ومستقبل شعوبها من حروب الأشقاء هذه التي لا أساس لها – بالمعنى – العملي، فضلاً عن وحدة التاريخ والجغرافيا والمصير – للتقدم إلى الهيمنة على الوطن العربي كله "من محيطه الهادر إلى خليجه الثائر" كما كان الهتاف الشعبي أيام زمان.

***

كل انقسام عربي قوة لهذا العدو.

وكل خلاف عربي – عربي يفتح مزيداً من الأبواب أمام هيمنة هذا العدو..

ومن حق نتنياهو أن يقف أمام حليفه الأميركي متباهياً بأن اسرائيل قد اسقطت الحصار العربي، بل وهي تكاد تسقط – مع واشنطن وبعض العواصم العربية – تعبير "الوطن العربي" الذي تفسخ الآن وتحول إلى دول فقيرة وضعيفة والى دول غنية بدأت تبرز عندها الآن نزعة إمبريالية. لقد سقطت الأخوة وحلت محلها المصلحة. وما الفرق بين استعمار غربي واحتلال إسرائيلي وبين هيمنة أهل النفط والغاز على قرار أشقائهم الفقراء.

لم تعد العروبة هوية جامعة.

قل لي كم دخلك أقل لك أن كنت أخاً شقيقاً أو جاراً طامعاً أو حاسداً متربصاً بأخوتك الأغنياء.

وما العيب في أن تكون اسرائيل الشريك والحليف للأخوة الأغنياء في مواجهة أشقائهم الفقراء؟

أن اسرائيل، هنا، هي الممثل الشخصي للولايات المتحدة الأميركية، وهي امبراطورية أهل الثروة في العالم.. وبالتالي فإن ثمة صلة نسب بين الأغنياء هنا وهناك، وبديهي أن تكون خصومتهما مشتركة للفقراء الذين يحبون الشغب وينزلون إلى الشوارع فيدمرون أسباب العمران ويهددون النظام..

وقديماً كان الوطن أغلى وأهم بما لا يقاس من النظام..

أما اليوم فالنظام هو أهم من البشر والأوطان والعباد الصالحين.