مقاربة مفاهيمية: الحوار الجامع بين الصليب والجامع!!

thumb (1).jpg
حجم الخط

 

تعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) أحد أهم المؤسسات الأممية التي تعمل في مناطق النزاعات والحروب، ومنها الأراضي الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة.. وتتحرك اللجنة بحسب التفويضات التي كفلتها لها القوانين الدولية، وذلك لكي تؤدي عملها الإنساني، بعيداً عن أجندات الدول الكبرى وحساباتها السياسية والأمنية.

اللجنة الدولية: نبذة تعريفية

تمَّ تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ قرابة قرن ونصف القرن.. وتسعى هذه الهيئة الأممية، التي حازت على جائزة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان وكذلك جائزة نوبل للسلام، إلى الحفاظ على قدر من الإنسانية في خضم الحروب، ويسترشد عملها بالمبدأ القائل بوضع حدود للحرب نفسها؛ أي حدود لتسيير الأعمال الحربية وحدود لسلوك الجنود. وتُعرف مجموعة الأحكام التي وضعت استناداً إلى هذا المبدأ، والتي أقرتها كل أمم العالم تقريباً، بالقانون الدولي، الذي تُشكل اتفاقيات جنيف حجر أساسه.

إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي منظمة مستقلة ومحايدة تقوم بمهام الحماية الإنسانية، وتقديم المساعدة لضحايا الحرب والعنف المسلح. وقد أوكلت إلى اللجنة الدولية، بموجب القانون الدولي، مهمة دائمة بالعمل غير المتحيز لصالح السجناء والجرحى والمرضى والسكان المدنيين المتضررين من النزاعات. وإلى جانب مقرها الرئيسي في جنيف، هناك مراكز للجنة الدولية في حوالي 80 بلداً، ويعمل معها عدد من الموظفين يتجاوز مجموعهم 12 ألف موظف. هذا وفي حالات النزاع، تتولى اللجنة الدولية تنسيق العمل الذي تقوم به الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر واتحادها العام. واللجنة الدولية هي مؤسس الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، ومصدر إنشاء القانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقيات جنيف.

صفحات التاريخ والصور النمطية الخاطئة!!

في السابق، لاحقت الاتهامات عمل تلك المنظمة الدولية وغيرها من المؤسسات والهيئات العالمية في العديد من الدول الإسلامية، واعتبرها الغلاة ومحدودو الوعي والثقافة في بعض البلدان أنها واجهات لخدمة الصليب ومصالح الدول الاستعمارية العظمى!!

ونظراً لحالات التوتر والتحريض الديني في بلادنا العربية والإسلامية، وتوجهات العداء القائمة مع بعض الدول الغربية، فإن تلك الأنشطة الإنسانية الأممية لا تلقى ترحيباً، بل تُلاحق فعالياتها الشكوك وعلامات الاستفهام، برغم الحاجة الكبيرة للخدمات والجهود المتميزة التي تقوم بها في مناطق النزاعات والحروب وأوقات الطوارئ!!

وكما جاء في كلمات من تحدثوا باسم الهيئة الدولية في لقاء المائدة المستديرة، ومنهم السيد جيلان ديفورن؛ مدير البعثة الفرعية للجنة الدولية في قطاع غزة، فإن هناك ضمن المبادئ الإنسانية والقانون الدولي الإنساني احتراماً للمعتقدات الدينية وحقوق أسرى الحرب في ممارسة شعائرهم الدينية، كما أن الأنشطة الإنسانية التي تنفذها اللجنة الدولية لا تحول بأي حال من الأحوال دون التحاور مع الزعماء والمنظمات الدينية. وينسحب ذلك بالطبع على أي مجموعة أو فرد تتواصل معهم لجنة الصليب، بغية تعزيز حماية الكرامة الإنسانية واحترام القانون، كما تعمل اللجنة الدولية أيضاً مع الكيانات السياسية - على سبيل المثال - دون أن يؤثر ذلك على حيادها أو استقلالها.

وفي سياق التعريف باللجنة الدولية؛ كما أورده موقعها، فإن الأشخاص المتضررين من النزاعات والعنف هم من يشكلون الشغل الشاغل لعمل اللجنة.. فهي تسعى إلى تعزيز الحوار والتفاعل مع كل من بوسعه التأثير بشكل إيجابي على مصيرهم، وتحرص اللجنة كل الحرص في تعاملها مع الدوائر الدينية والكيانات السياسية والمجموعات الاثنية والجهات الفاعلة الأخرى، على الحفاظ على هويتها غير الدينية، وتنأى بنفسها عن الدخول في أية جدالات بشأن المسائل الدينية والسياسية.

لا شك أن فهم دور وطبيعة تلك المنظمات الدولية، ومنها الصليب الأحمر، يتطلب وعياً معرفياً بطبيعة نشأتها، ومجالات عملها، وحجم الاسهامات التي تقدمها لضحايا النزاعات حول العالم، حيث إن المعرفة تبدد الشكوك، وتسهم في بناء الثقة وفتح آفاق التعاون والتنسيق، بما يحقق المراد والغاية من وراء عمل ومهمات تلك اللجنة الدولية.

نعم؛ إن اللجنة الدولية تتعاطى - إلى حدٍّ كبير - مع العلماء المسلمين والأوساط الإسلامية في أصقاع مختلفة من العالم الإسلامي، حول جوانب التشابه والاختلاف بين القانون الدولي الإنساني وما يعادلها في الفقه الإسلامي، فضلًا عن قضايا إنسانية ملموسة، مثل: الوصول إلى الضحايا وحماية العاملين الصحيين والمرافق الطبية والجرحى والمرضى. لقد حرصت اللجنة الدولية منذ أمد بعيد على المشاركة في المؤتمرات والموائد المستديرة التي تتناول الشريعة والقانون الدولي الإنساني، وقد استضافت الجامعة الإسلامية بتاريخ 5 مايو 2017 إحدى هذه الملتقيات، وكان لي شرف التحدث بكلمة في ذلك اللقاء.

إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تتحرك من خلال مرجعياتها العليا بمقرها الرئيس بالعاصمة السويسرية (جنيف) إلى إقامة علاقات أساسها الثقة والشفافية مع أصحاب المصلحة الرئيسيين في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، لأسباب ليس أقلها أن احتياجات ضحايا النزاعات في العالم الإسلامي في زيادة مستمرة بكل أسف على مدار العقدين الماضيين، وخاصة في العراق وسوريا، وما يجري حالياً في اليمن وقطاع غزة.

لقد بدأت المؤسسة منذ منتصف التسعينيات بالتشاور مع علماء المسلمين والمثقفين والعاملين في المجال الإنساني بشكل منتظم، وذلك استكمالًا لتعاونها المعتاد مع الهيئات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. وكان الهدف من ذلك - ولا يزال – يكمن في التغلب على سوء الفهم من الجانبين، وتعزيز حماية الكرامة الإنسانية أثناء النزاعات المسلحة، من خلال مناقشة الأسس القانونية العقائدية والأخلاقية التي تقوم عليها القواعد الإنسانية، فضلًا عن التحديات الملموسة التي تمثلها النزاعات المعاصرة وسبل مواجهتها.

الدعاة والوعاظ وممثلو اللجنة الدولية: حوار جامع

في الحقيقة، كانت سعادتي غامرة خلال اللقاء الذي جمع مؤخراً كبار مسئولي اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة مع شخصيات وازنة من وزارة الأوقاف والشئون الدينية، حيث جرى الحوار حول تعزيز سبل التعاون والتنسيق بينهما في أوقات الطوارئ.

كانت المداخلات والتساؤلات والكلمات التي تمَّ تقديمها خلال اللقاء كافية لإزالة سوء الفهم وتحسين الانطباع، وإظهار مكانة الهيئة الدولية للصليب الأحمر، وتثمين ما تقوم به من جهد إنساني كبير، يستدعي حقيقة الشكر والثناء والتواصل، والحرص على استمرار الحوار والنقاشات لجسر ما كان يبدو أنه انطباعات خاطئة ومفاهيم مغلوطة راكمتها حالة الجهل والتشكيك، التي انطبعت في أذهان الكثير من الدعاة والوعاظ، فيما يخص بعض تلك المؤسسات الأممية ذات الطابع الإنساني والإغاثي، مثل: الصليب الأحمر، وأطباء بلا حدود، و"أوكس فام".... الخ

ربما كان هذا اللقاء هو الأول الذي يجمع شخصيات دينية من الدعاة والوعاظ في قطاع غزة مع ممثلي الهيئة الدولية للصليب الأحمر، ولكنه بالتأكيد ترك انطباعات إيجابية، وهذا ما لمسناه من أجواء النقاش، التي عبر من خلالها المتحدثون عن احترامهم وتقديرهم للجهود التي يبذلها الصليب الأحمر بأطقمه الأجنبية والمحلية، وخاصة في السهر على قضايا الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية ومتابعتها مع سلطة الاحتلال، وكذلك على ما تقوم به الهيئة الدولية من توفير بعض الاحتياجات الطارئة للمستشفيات، ومركز الأطراف الصناعية التابع لبلدية غزة.

كان اللقاء فرصة مهمة للحديث عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وطريقة التعامل مع الأعداء وقت الحروب، وأخلاقيات المسلمين في معاملة الآخر من أبناء الطوائف والديانات الأخرى، والتي تجسد طبيعة "الرحمة"، التي جاءت بها تعاليم الأنبياء والمرسلين، ومن جاء رحمة للعالمين.

كان اللقاء في حواراته الواسعة مع الدعاة والوعاظ مناسبة لاكتشاف القواسم الإنسانية المشتركة، التي تحكم عمل الهيئة الدولية من جهة، والمفاهيم "مناط التكليف" بفضائها الإنساني التي يتحرك بها الدعاة والوعاظ، بكل ما تجسده التعاليم الإسلامية من منظومة قيمية وتجمع بين الرحمة والتسامح والعفو والتغافر بين البشر.

لقد درجت اللجنة الدولية منذ أمد بعيد على إقامة حوار مع المؤسسات والحركات والطوائف الدينية والتفاعل معها، وأولت هذا الأمر عظيم الاهتمام، وهو لا يقتصر على ديانات بعينها بل يمتد إلى الأديان كافة. وقد التقى رئيس اللجنة الدولية، السيد "بيتر ماورير" بابا الفاتيكان، البابا فرانسيس في آذار 2014، وناقشا معاً مجموعة من القضايا الإنسانية، منها كيفية تعزيز حماية الكرامة الإنسانية واحترام مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها، ومصير الأسرى وحقوق المهاجرين. كما كانت هناك لقاءات تشاورية دائمة لمبعوثي اللجنة الدولية مع الرئيس محمود عباس، ومع قيادة حركة حماس ورئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية.

مفاهيم يجب أن تصحح!!

كما أسلفنا؛ فإن هناك مساحة من التوتر والشكوك كانت تطرأ أحياناً لغياب الوعي بمهمات اللجنة الدولية وطريقة عملها، حيث إن منظومة العمل الإنساني بطبيعتها الحالية – كما يقول البعض - تعزز من التنافس وعدم التعاون بين الجهات العاملة، وخصوصاً في أوقات الأزمات، حيث تغيب الشراكة الحقيقية عن عمل المنظمات غير الحكومية الدولية مع الحكومات أو الجمعيات الوطنية، إلا من خلال تعاقدات على مشاريع قصيرة المدى في شراكة غير متكافئة. الأمر الذي يساهم في غياب الثقة المتبادلة وتضارب الأدوار فيما بينهم، ويعزز من التنافس على جلب الأموال والتغطية الإعلامية!!

إن قراءة المشهد الذي عليه الحال، وخاصة هنا في قطاع غزة، تتطلب من الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية أن تجدد العهد بالالتزام بالأولوية الأولى في العمل الإنساني، وهي: إنقاذ حياة المتضررين دون تمييز أو تفرقة، وحمايتهم من أي أذى والحفاظ على كرامتهم الإنسانية، وضمان حقهم في المساعدات الإنسانية التي تلبي احتياجاتهم.

ومن الجدير ذكره : إنَّ الأسباب الرئيسة الكامنة في إجراء مثل هذا الحوارات وتلك الأنشطة، التي تقوم بها اللجنة الدولية مع الواجهات الدينية، كتلك التي شاهدناها مؤخراً في مدينة غزة، إنما تهدف إلى الانفتاح والتواصل ومد الجسور لتعزيز التفاهم المتبادل، والتغلب على المفاهيم والانطباعات الخاطئة من كلا الجانبين، والارتقاء بمستوى التقدير والاحترام للكرامة الإنسانية، والحفاظ على حياة الإنسان، وتوفير الحماية لأولئك الأشخاص الذين لا يشاركون في النزاعات المسلحة وأعمال العنف، ودرء المعاناة، وهي في النهاية قيم إنسانية تتساوق وروح الرسالة الإسلامية والديانات السماوية.

ختاماً.. "الحكمُ على الشَّيءِ فَرعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ"

إن الانطباعات التي خرجت بها، من خلال حواري مع عدد ممن شاركونا اللقاء من الدعاة والوعاظ، كانت إيجابية للغاية، حيث اتضحت الصورة عن الدور والمهمات الإنسانية التي تقوم بها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فهي ليست رأس حربة صليبية كما كان يعتقد البعض؛ لأن مهماتها أصلاً بعيدة عن شئون الدين والسياسة، وهي تنأى بنفسها من خلال لوائحها عن كل ما يمكن أن يثير الشبهات حول هذا الأمر.

حقيقة، من الحوار ينبثق النور وتتجلى نقاط الالتقاء، التي تسمح بفهم أفضل لتعزيز سبل التواصل والتعاون، وخاصة في وقت النزاعات والحروب أو الطوارئ.

كان اللقاء بين الدعاة والوعاظ أكثر من رائع، وكان لفتة تستحق الإشادة والتشجيع، لتجاوز أخطاء وتداعيات الصور النمطية التي تسود بعض مفاهيمنا وعلاقاتنا كمسلمين تجاه الآخر، فالحقيقة التي نعلمها جميعاً هي أن فهم الشيء هو جزء من تصوره.

صحيحٌ؛ أن استهداف العديد من الدول الغربية لبلادنا العربية والإسلامية ونهجها الاستعماري، قد غذَّى مشاعر العداء والكراهية، وعاظم من التوجسات والشكوك التي لاحقت بعض المنظمات والهيئات الأممية، ولكن متطلبات العدل والإنصاف تستدعي أن نفهم معنى "ليسوا سواء.."، إذ إن هناك الغرب الرسمي الذي تحركه المصالح وتطلعات الهيمنة والتوسع الاستعماري، كما أن هناك الشعوب بوقفاتها ومعارضاتها التي تقول لا لقرارات حكوماتها الظالمة، وهناك أيضاً التجمعات الحقوقية التي تحركها صحوة الضمير والجوانب الإنسانية، وتصرخ هي الأخرى بالعدل من أعلى منابرها، فينبثق عنها ما نشاهده من منظمات المجتمع المدني، التي تحاول إيجاد التوازن في المشهد الإنساني، من خلال ما تقوم به من أنشطة وفعاليات عابرة للدول والقارات، ولها أهداف نبيلة لا تخطئها عين المراقب المتابع لفضائل أعمالها الإغاثية والإنسانية.

اعتقد أن اللقاء بين اللجنة الدولية للصليب الأحمر ووزارة الأوقاف والشئون الدينية في قطاع غزة سوف يؤسس لعلاقات أفضل، وسيعمل على توطيد أشكال التعاون والتنسيق، وقيام تفاهم واستيعاب لطبيعة وقيمة ذلك العمل الإنساني بهويته الأممية، بالصورة التي نتمناها أن تسود.