أوسلو العكسي: الحرب عكس السلام

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

أظهرت قمة هلسنكي المدى الذي وصلته إدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، الذي يمكن القول معه دون مجازفة: إن واشنطن قد صارت بمثابة ناطق رسمي، أو وزارة خارجية لإسرائيل، فعلى عكس القمم التي كانت تعقد قبل بضعة عقود، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ثم روسيا_ ولعلها تحضرنا هنا كمثال قمة ريكيافيك التي عقدت عام 1986 بين ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان_ لم تتعدد بنود القمة، بل تكاد أن تكون قد انحصرت، في الملف السوري وانعكاساته على «أمن إسرائيل»، ولعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد دخل إلى حيث عقد اللقاء «بقدمه اليمنى» يمشي بخيلاء، بعد مونديال روسيا، وبعد أن أظهر للعالم كله أنه حقق فوزاً سياسياً في سورية على أميركا وحلفائها، بل ربما كان قد ذهب لملاقاة ترامب، وهو «يضحك في عبه» كون أجهزة أمنه هي التي ساهمت في إيصال ترامب إلى البيت الأبيض.
ولعل انغلاق اللقاء على الرجلين، يظهر أيضاً أن السياسة الأميركية باتت تصنع في البيت الأبيض فقط، وفي إطار طاقم مكون من بضعة رجال يحيطون بترامب بعيداً عن عيون الرأي العام الأميركي وحتى عن معظم مؤسسات الدولة الأميركية، لعدم كشف المستوى الذي يعمل فيه ترامب وإدارته لصالح إسرائيل، أكثر مما يعمل لصالح أميركا نفسها.
المهم أن اللقاء تمخض عن مباركة أميركية للصفقة التي كان عقدها بنيامين نتنياهو مع بوتين، ومضمونها سحب المطالبة بإسقاط نظام بشار الأسد مقابل إبعاد إيران عن الحدود مع إسرائيل بعمق 80 كيلومتراً، ما يعني أن أميركا لا تقوم بالعمل من أجل إسرائيل فقط في ملف احتلالها لأرض دولة فلسطين وحسب، وما كل الحديث عن التحضيرات الإسرائيلية لمواجهة الوجود العسكري الإيراني في العراق بعد سورية، إلا دليل آخر على أن إسرائيل، التي كانت دائماً تقول: إن الأولوية دائماً لأمنها، الذي هو مفهوم مطاط، يتمدد دائماً مع الوقت وليس له حدود، لم يزل هو بوصلتها في رسم سياساتها الخارجية وحتى  الداخلية، بل إنه بات اليوم منصة لدس أصابعها بأبعد مما يتخيل الكثيرون.
لن يطول الوقت حتى يدرك بعض العرب، أنه من العبث المراهنة على إسرائيل، حتى فيما يخص الحفاظ على عروشهم، فإسرائيل لا تقيم وزناً للآخرين ولا حتى للمصالح الأميركية بل تفعل كل شيء من أجل مصلحتها هي أولاً، التي لا تتوافق مع مصالح أحد، لسبب بسيط وهو أن إسرائيل مسكونة بنزعة عنصرية، لا ترى أي مستوى من المساواة بينها وبين دول الجوار أو حتى دول وشعوب العالم بأسره.
لقد جرب بعض العرب وحتى الفلسطينيين أنفسهم إسرائيل حين عقدوا معها اتفاقيات السلام، في ظروف سياسية معينة، سرعان ما كانت إسرائيل تصر على فرض شروط تجعل من باب التراجع ممكناً، هذا أولاً، وثانياً، تجعل من تغير الظروف فرصة للتراجع، هذا إضافة أصلاً إلى أنها لا تقيم وزناً للقيم الأخلاقية، فهي لا تلتزم بما توقع عليه، ولا تحترم أي اتفاقيات، ولذلك أسبابه، إن كانت تلك المتعلقة بظروف نشأتها كدولة استعمارية، أو استمرارها كدولة احتلال، تماماً كما هو حال السارق الذي من أجل الحفاظ على سرقته يقوم بفعل كل ما هو مناف للقانون والأخلاق، من تزوير وقهر واستغلال.
مصر عقدت اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل بعد حرب 73، و م ت ف عقدت اتفاقية أوسلو بعد انتفاضة 1987، أي إن إسرائيل كانت تضطر إلى عقد اتفاقيات سلام، تراها مؤقتة، وتقوم بزرع الألغام بين نصوصها، من أجل التراجع لاحقاً، أو القيام بإفراغها من محتواها.
يمكن القول: إن إسرائيل قد اضطرت لعقد اتفاق أوسلو أولاً، بعد مدريد حيث أجبرت إدارة بوش الأب اليمين الإسرائيلي الحاكم حينها بعد حرب الخليج الثانية، وثانياً بعد الانتفاضة الثانية، التي أسقطت حكومة اليمين، وكانت سبباً في فوز اليسار عام 92 بالانتخابات بفارق عضو كنيست واحد، كان كافياً لتوقيع إسحق رابين على أوسلو، لكن إسرائيل اليمينية نظرت إلى تلك الاتفاقيات كزلة طارئة، بدأت مواجهتها باغتيال رابين أولاً، ومن ثم  بالإبقاء على الحل الانتقالي، ومنع التوصل للحل الدائم.
وقد راوغت حكومات اليمين الإسرائيلي منذ العام 1996، من أجل عدم تنفيذ الخطوات التالية لإعلان القاهرة، «غزة أريحا أولاً»، ورغم إصرار الإدارات الأميركية على متابعة  الملف، إلا أن إسرائيل كانت تمنع أوسلو من التنفيذ المتدرج، بل وتقوم بتنفيذ أوسلو عكسي، كما قال فرانك لوينشتاين المبعوث الخاص للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لرعاية المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فحين نص أوسلو على نقل متدرج للسلطة إلى الفلسطينيين قامت عملياً بنقلها إلى المستوطنين!
ولقد احتاجت الولايات المتحدة بسبب عماها السياسي وانحيازها الدائم لإسرائيل إلى أكثر من عشرين عاماً لتدرك هذا الأمر، بعد أن أغلقت إسرائيل آخر فصل تفاوضي عام 2014، لتتخذ لأول مرة منذ العام 2008 موقفاً يمكّن مجلس الأمن من اتخاذ القرار 2334، الذي يطالب بوضع حد للمستوطنات، وذلك في أواخر أيام 2016.
كان ذلك بعد أيام من إعلان فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، وكان هو شخصياً قد حاول الضغط على إدارة أوباما لاتخاذ حق النقض، بما يعني أن الصحوة الأميركية ما كانت إلا «حلاوة روح» ولم تكن إلا أياماً بعد ذلك، وقامت إسرائيل بتسلم مفاتيح البيت الأبيض السياسية. كل هذا يعني شيئاً واحداً وهو أن إسرائيل في غفلة، فقد كانت أمامها فرصه للعيش بالتعايش مع سكان المنطقة، مروراً بالتعايش مع الشعب الفلسطيني، لكنها ما زالت محكومة بزهو الفاتحين الذين ظنوا جميعاً بأنهم قادرون بالقوة على السيطرة على العالم، لكن الوقت ضربهم على رؤوسهم في نهاية المطاف.