مقاربة بين جنوب إفريقيا وإسرائيل (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بعد استعراض أوجه التشابه بين النظامين (الإسرائيلي والعنصري في جنوب إفريقيا) سنستعرض أوجه الاختلاف؛ فمن حيث المبدأ، الغرض من الاحتلال الإسرائيلي يختلف عن الغرض من الفصل العنصري؛ فقد كان الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، نظاما يقوم على أساس التمييز العنصري، ويرتكز عليه، أي أن النظام أنشأ مؤسساته وشكّلها لهذه الغاية؛ بينما أقيم الكيان الإسرائيلي لغايات مختلفة، وفي سياقات تاريخية مختلفة، وحتى لو مارست إسرائيل العنصرية، إلا أن شكل مؤسساتها لا يقوم على العنصرية بنفس الوضوح الذي كنا نراه في جنوب أفريقيا.
ومن ناحية ثانية، فقد جاءت دولة البيض في جنوب إفريقيا في سياق التنافس على المستعمرات الخارجية بين الدول الأوروبية، لوقوعها على خط التجارة الدولية، على الطريق نحو المستعمرات الآسيوية، لكن أهميتها الإستراتيجية تضاءلت بعد شق قناة السويس، وصارت أشبه بمشروع استعماري محلي مستقل، لطبقة من البرجوازية الأوروبية الطامعة، ولحفنة من المغامرين والهاربين من بلدانهم، والذين ظلوا على صلات تجارية قوية مع دول المركز في أوروبا. 
بينما جاءت إسرائيل في سياق مشروع أوروبا الاستعماري، لتكون أداة لها، وموقعا متقدما يحمي مصالحها في واحدة من أهم المناطق في العالم، ثم وفي مرحلة لاحقة حوّلت إسرائيل ولاءها وتبعيتها للولايات المتحدة. بمعنى أن إسرائيل كانت وما زالت تمثل مشروعاً حيوياً للمنظومة الغربية، ما زال يستمد أسباب قوته، ومبررات وجوده من خلال العلاقات المتميزة بدول الغرب، ومن خلال دوره الوظيفي.
لذلك، لم يجد المجتمع الدولي صعوبة كبيرة في تخلّيه عن دولة البيض في جنوب إفريقيا، ونزع الشرعية عنها، بعد أن كان قد عزلها وفرض عليها عقوبات تجارية، خاصة بعد أن اشتد الصراع هناك، في مرحلة كان العالم يشهد فيها تحوّلات إقليمية ودولية كبيرة وعميقة. في حين أنه بسبب الخصوصية الدولية للقضية الفلسطينية، وأهمية إسرائيل الفائقة بالنسبة للغرب؛ لم يكن من السهل أبداً تقبّل فكرة نزع الشرعية عنها، أو عزلها، أو فرض عقوبات عليها، وظلَّ المجتمع الدولي يكيل بمكيالين ويتعامل بمعيار مزدوج معها، ويغُض الطرف عن ممارساتها وجرائمها وتجاوزاتها للقانون الدولي. فإذا كان في الحالة الإسرائيلية ثمة دولة منحازة بالكامل وبكل قوة لصالحها، وهي الولايات المتحدة، فإنه في حالة جنوب إفريقيا لم تكن تلك الدولة موجودة.
 ربّما ساعد إسرائيل في ذلك، أنها كانت أكثر ذكاء وحنكة وبُعد نظر من الحزب الوطني في جنوب إفريقيا؛ ففي البداية قدّمت إسرائيل نفسها على أنها "الدولة الضحية"؛ ضحية الكارثة والنازية، وضحية الدول العربية التي تريد إلقاءها في البحر، لذلك حظيت بقبول العالم، واعترافه بها، وهي إن كانت تمارس العنصرية والتمييز بين سكانها، إلا أنها لا تعلن عن ذلك صراحة، وتموّه على ممارساتها بالحيل الإعلامية، بينما تبنّى الحزب الوطني الحاكم العنصرية سياسة علنية رسمية للدولة، ومارسها بأكثر أشكالها بشاعة وفظاعة، لذلك لم تحظ جنوب إفريقيا بدعم العالم وتعاطفه معها، بل كانت تسهّل المهمة على المناضلين الإفريقيين لفتح جبهة دولية مضادة لها.
ومن ناحية ثانية، فقد كان الحديث عن جنوب إفريقيا يدور حول تغيير شكل الحكم، وإسقاط حكومة، بينما في الحالة الفلسطينية الحديث يدور عن تغيير حدود سياسية في الحد الأدنى، قد يؤدي ذلك إلى تغير المشهد السياسي بالكامل. 
في القضية الفلسطينية كان للصراع أبعاد قومية ودينية وادعاءات تاريخية من قِبَل الجانبين، أما في قضية جنوب إفريقيا فقد كان للصراع أبعاد عرقية وإثنية، ولكن دون خلافات على رواية تاريخية لملكية الأرض؛ فقد كان كلٌ من السود والبيض يعرّفون أنفسهم بأنهم إفريقيون جنوبيون، وكان أغلبهم من نفس الديانة (المسيحية). أما في فلسطين فالأمر مختلف تماما؛ فالفلسطينيون والإسرائيليون شعبان مختلفان، من أصول مختلفة، وينتميان لحضارتين متباينتين، لكل منهما دين مختلف، وتطلعات وطموحات مختلفة. 
في جنوب إفريقيا حاولت السلطة الحاكمة توظيف الدين لفرض سيطرتها على المجتمع، وإضفاء مشروعية دينية على نظامها العنصري، وأقنعت جمهورها بأن الممارسات العنصرية تمثل وصايا الرب، ومع ذلك لم يلعب الدين دوراً محورياً في الصراع. ولكن في الصراع العربي الصهيوني كان للدين حضور طاغٍ، وقد لعب دوراً أكثر أهمية؛ فهو في صُلب العقيدة الصهيونية، وأساس ادعاءاتها التاريخية بملكية الأرض. كما بتنا نلحظ تنامي دور الحريديم، وزيادة تأثيرهم على السياسة الإسرائيلية على نحو بات يهدّد بتغيير بُنية وهوية الدولة. وفي المقابل هناك حضور قوي ومؤثر ومتنام للأحزاب والحركات الإسلامية في الطرف الفلسطيني، وكلا الطرفين يسعيان لتحويل الصراع إلى صراع ديني. ومن الملاحَظ أن الدين (في فلسطين وجنوب إفريقيا) كان يُنتِج اليمين واليمين المتطرف في جانبي الصراع (اليمين المتدين أو القومي أو العرقي)، اللّذَيْن رغم تناقضهما الظاهري كانا متحالفيْن ضد القوى الوسطية التي تدعو لحل سلمي، وكانا يؤثران على الخارطة السياسية.
وثمة فرق جوهري آخر بين الحالتين الإسرائيلية والجنوب إفريقية، يكمن في سعي إسرائيل لتعريف نفسها كدولة يهودية؛ وهذا التعريف الإثني/ الديني غير موجود في دستور جنوب إفريقيا، لا الآن، ولا في فترة الفصل العنصري. وتعريف إسرائيل لنفسها كدولة يهودية يعني وضع الأيديولوجية الصهيونية كأيديولوجية عليا للدولة، وفي هذه الحالة تصبح العنصرية الصهيونية هي مبدأ الدولة الرسمي المعلَن والمتبع –كما فعل الحزب الوطني في جنوب إفريقيا– وليس كما تحاول إسرائيل تصوير نفسها للعالم على أنها دولة القانون والمساواة وحقوق الإنسان وواحة الديمقراطية... حيث أن يهودية الدولة تتناقض جذريا مع الديمقراطية.
والفرق الآخر بين الحالتين؛ أن العرب القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي داخل الخط الأخضر يمثّلون الأقلية السكانية (حوالي 20%)، بينما كان البيض في جنوب إفريقيا -وهم قوة الاحتلال والسلطة الحاكمة- يمثلون الأقلية (حوالي 15%). لذلك جاء الدستور في جنوب إفريقيا (بعد انهيار النظام العنصري) ليحمي ويضمن حقوق الأقليات، ويساوي بين جميع المواطنين تحت قومية واحدة، ودولة واحدة. بينما تقترح السلطة الحاكمة في إسرائيل تقديم دستور يحمي الدولة اليهودية الإثنية، ويُبقي على الأقلية الفلسطينية كهوية وطنية غير مندمجة، ولا تمتلك نفس حقوق اليهود.