نداء الواجب في لحظة الحقيقة

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

عجيب غريب عن كل قوانين التحرر الوطني ما تشهده وتعودت عليه الساحة الفلسطينية، حيث ينبغي دائماً أن يحرص الكل على أن تظل بوصلة النضال تؤشر على التناقض الرئيس وهو الآن مع الحلف الأميركي الإسرائيلي. 
ثمة قوانين وقواعد تحكم العلاقات في صفوف الشعب والقوى الوطنية التي، تخضع أراضيها وحقوقها للاحتلال، إذ ليس من المقبول إطلاقاً مقارعة الاحتلال بالشعارات، وبتسجيل المواقف، بينما تتجنّد الإمكانيات في مقارعة القوى التي يفترض أنها تقاتل من أجل الحقوق الوطنية العامة.
يلفت النظر أنه بمجرد أن ظهرت على سطح الأحداث مؤشرات اتفاق تديره القاهرة، والمبعوث الأممي لعملية السلام نيكولاي ميلادينوف، بشأن هدنة لم يتحدد مداها الزمني حتى اللحظة، حتى اندلعت موجة من الاتهامات المتبادلة والمزايدات والمناقصات، بهدف تبرئة الذات، وإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر. 
شبكة التواصل الاجتماعي طافحة بالتعليقات والمطالبات، وتسجيل الانتقادات والملاحظات، ومن كان ينادي بالمقاومة الشعبية السلمية أصبح يتباكى على المقاومة المسلحة، ومن ساهم ويساهم في تعميق الانقسام أصبح أكثر حرصاً على المصالحة. 
البعض يرى ومن حقه أن يفعل، بأن الصفقة أو الاتفاق الذي يجري تداوله لا يتناسب أبداً مع التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني، خصوصاً والمقصود في قطاع غزة، ولكن من دون أن يفعل هذا البعض أي شيء من أجل التخفيف عن الأعباء الثقيلة التي عانى ويعاني منها سكان قطاع غزة.
فكرة الهدنة الطويلة التي تتجاوز السنوات الخمس ليست غريبة على القاموس السياسي لحركة حماس، وقد ظهرت هذه الفكرة قبل سنوات، وحتى قبل أن يقع الانقسام السياسي الذي بادرت إليه عبر الانقلاب حركة حماس. 
كما أنه ليس جديداً، ولا مستبعداً أن تبدي حماس استعداداً، للتفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وقد جرى ذلك خلال صفقات، تبادل الأسرى، وربما كان هناك مستوى معين من التنسيق عبر وساطات أصبحت معروفة للجميع، ولكن كل ذلك لا يعني أن حماس يمكن أن تستجيب لشروط الولايات المتحدة، وقبلها الرباعية الدولية، وكان من بين تلك الشروط الاعتراف بإسرائيل.
على أن حماس التي وجدت نفسها أمام خيارات صعبة فهي إما أن تقبل بالهدنة، من أجل تحقيق الشعار المعلن للحراك الشعبي شرق قطاع غزة، وهو كسر الحصار، فضلاً عن المحافظة على علاقة جيدة مع القاهرة أساساً، وإما أن عليها وعلى سكان قطاع غزة أن يدفعوا الثمن من خلال عدوان إسرائيلي مختلف هذه المرة عن كل المرات السابقة، سواء بالأهداف أو بحجم الدمار.
كان من الأفضل نوعياً أن تتم هذه الخطوة ونقصد اتفاق الهدنة بعد أن تكون قاطرة المصالحة قد انطلقت، بما يوفر الغطاء الوطني ويعزز الخيار الفلسطيني في مواجهة صفقة القرن، وكل ما يتصل بها بشأن قطاع غزة، لكن التلكؤ والتباطؤ، واستمرار التمسك بالحسابات الخاصة يؤدي إلى ما عليه الحال. 
وكان من الأفضل أيضاً لو أن المصريين أو حركة حماس، بادروا إلى الحوار مع الفصائل قبل إتمام هذا الاتفاق حتى تعزز حماس مصداقيتها إزاء خطاب الشراكة السياسية، وحتى لا تجد نفسها وحدها في الميدان، لكن الأمور لم تسر وفق هذا السياق بالرغم من أن إنضاج الاتفاق لم يكن من صناعة يوم وليلة. 
حركة فتح أكثر من غيرها وربما تكون الوحيدة التي تعرف ما الذي يدور في أروقة الحوارات والوساطات غير المباشرة، فلقد جرى تهميش الفصائل الأخرى، حتى لو كان بعضها على علم ببعض الأمور.
الاتفاق الذي ينتظر الإعلانات الرسمية سواء بعموميته أو بتفاصيله لا يشكل سوى البداية والحلقة الأولى في مسار تغيير الأوضاع في قطاع غزة، الذي يتقاطع عنده العديد من القوى والأهداف المتناقضة، حتى بدا وكأن معالجة أوضاع القطاع قد أصبحت استحقاقاً سياسياً مستعجل التنفيذ.
لن تتغير الحال كثيراً ونوعياً بالنسبة لسكان قطاع غزة، أو حتى بالنسبة للفصائل ومنظمات المجتمع المدني بمجرد أن يتم التوقيع أو الموافقة على الهدنة، ذلك أن وضع خطة إنعاش القطاع أو إعادة تأهيله تحتاج إلى وقت وآليات وأدوات مختلفة. 
من المتوقع أن تبادر إسرائيل إلى اتخاذ خطوات عملية محدودة لتخفيف الحصار من نوع إعادة تشغيل معبر كرم أبو سالم، وتوسيع مساحة الصيد البحري، وفتح المجال أمام حركة البضائع والأفراد، وربما ينتظم فتح معبر رفح وبآليات أفضل من الآليات الجارية، لكن دخول الأموال لإدارة خطة إعادة بناء قطاع غزة انطلاقاً مما طرحه ميلادينوف يحتاج إلى مصالحة فلسطينية ويحتاج إلى معالجة ملفات أخرى عالقة.
ملف الأسرى واحد من الملفات العالقة، وتجري متابعته على نحو حثيث من قبل عديد الوسطاء، والملف الأمني لا يزال مفتوحاً، لكن الأهم هو ملف المصالحة.
المجتمع الدولي والقوى الداعمة على اختلافها واختلاف أهدافها، ودوافعها، لا يزال ملتزماً بالشراكة مع السلطة الوطنية التي تمثل الشرعية، وبالتالي لا سبيل لأن تتحرك الأوضاع في القطاع نحو انفراجات مهمة دون وجود السلطة في القطاع.
ثمة وقت قليل متاح أمام الفلسطينيين لمعالجة ملف المصالحة وإعادة الحياة والحيوية للخيار الوطني في مواجهة صفقة القرن، ما يرتب على الفصائل الأساسية مسؤولية تاريخية، وإلاّ فإن الكل متورط في تسهيل نجاح الخيار الأميركي الإسرائيلي، الذي يستعجل إقفال ملف قطاع غزة، وإبعاده كلياً عن دائرة وشروط الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، فإما أن يكون الجاري في سياق تعزيز صمود الفلسطيني على أرضه وإما أن يكون بلاءً جديداً.