التهدئة وانكشاف الغُمة

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

من خارج أية رؤية لمشروع سياسي فلسطيني مندمج وواضح ومتكامل، يتقبل الطرف المسيطر على غزة، صيغة حل مأزقها، ويرفض الطرف الحاكم في الضفة بدون سلطة فعلية على الأرض، تلك الصيغة، دون أن يقدم بديلاً، لكي يصبح حل المأزق الفلسطيني الداخلي، فلسطينياً صرفاً.

الطرفان يناوران ويختبئان، وراء الشعب والقضية والعذاب الفلسطيني، في وجهتين خطابيتين متعاكستين، تزعم كل منهما امتلاك الشعب والوصاية عليه، بعد أن فشلتا في التوصل الى حل لاقتسام حريته دون التفكير في تمكينه منها. ذلك علماً بأن الطرفين، أنهكا الشعب بأفاعيل السياسات الإجتماعية والاقتصادية والأمنية!

فأين هي الوطنية الحقيقية، في كلا الموقفين، سواءً المتقبل لصيغة حل مأزق غرة أو الرافض له؟ الأول، المتقبل والمستعد للانخراط في مشروع الحل، يريد أن يقدم حلاً لسكان غزة، وليس حلاً بإسمهم، يضع النقاط على الحروف، لكي يكون معلوماً ومرئياً الخط الفاصل بين تحقيق انفراج للمأساة الإنسانية، والحفاظ على مدركات القضية وصيغة التسوية التي أرتضتها الحركة الوطنية الفلسطينية قبل أكثر من ربع القرن، بحكم الوقائع والمعطيات الكثيرة التي تمنع رفع سقفها. أما الطرف العباسي الذي يرفض ويولول وينوح نواحاً كاذباً مثلما تفعل النائحة المستأجرة التي لا تألم لموت الميت؛ فإن موقفه مثير للسخرية، لأنه هو الذي صنع ثلاثة أرباع مأساة غزة، برعونته في مواجهة حماس، وبضلال قراراته، وبتعلية شأن حماس التي كانت في البداية، مسؤولة بالكامل عن هذه المأساة، ثم ارتقى بها هو وليس غيره، الى منصة الحلول الدولية، لكي يصبح ما يغيظه الآن، هو إنهاء هذه المأساة. والطريف أن صاحب الغيظ، عندما يلجأ الى التشكي، والتعريف على أسباب غيظه بالتدليس، فيزعم أنه يألم على القضية وليس على حل المأزق، يقابله الناس بالسخرية ويتمنون له المزيد من الغيظ!

لنعترف أن الطرفين، أوصلا سكان غزة الى حال الامتثال لأي حل منزوع الدسم السياسي، شرط أن يرفع عنهم الغُمة ويفتح آفاق الرزق ويضيء البيوت ويعالج المرضى، ويطلق مراكب الصيادين، ويفك احتباس المجتمع وينشيء سياقاً للتنمية. لكن حق الشعب الفلسطيني في الاستدراك وفي إبطال مزاعم سلطتي الأمر الواقع، والاستمرار في التمسك بالقضية وبالحل السياسي الضامن لوحدة الأراضي الفلسطينية وكيانها السياسي، والأقرب الى المنطق في ظل حقائق ومعطيات ظالمة؛ سيظل (هذا الحق) مكفولاً للجماهير الفلسطينية، بحكم أن الممسكين بالسلطتين منتهو التفويض، وأن كل ما جرى ويجري، تتلقاه الناس دون استشارتها، ويُقدم لها وللأطراف الأخرى، الوسيطة والصديقة والعدوة، باسم السلطتين وليس باسم الشعب صاحب الحق الأصيل في تقرير مصيره وصناعة مستقبله!

لم يكن عباس وهو "يعاقب" غزة، وينسّق أمنياً مع الاحتلال، ويطيح القانون ويطوي الوثيقة الدستورية ويستولي على السلطة القضائية والمقدرات المالية؛ يفعل ذلك باسم الشعب الفلسطيني. ولم تكن حماس وهي تجعل غزة ملعبها وساحة مناوراتها، وتنفرد بقرار الحرب التي تأكل نارها البشر وتدمر الحجر ومنازل الناس المهمشين ومساجدهم ومدارس أطفالهم؛ تفعل ذلك باسم الشعب الفلسطيني.

إن قلنا إن الحل الإنساني والتهدئة، ضروريتان لسكان غزة، يرد قاطعو الأرزاق وخانقو السكان أنفسهم، إنها مؤامرة لتصفية القضية والاكتفاء بدويلة غزة. وكأن هؤلاء ليسوا هم الذين يجعلون غزة، في كل يوم أقل من دويلة، ويُنمّطون حتى الموالين من الغزيين وأفراد التسحيج، باعتبارهم أغراب ومن شعب آخر، حتى في أبسط الأمور. وليتهم فعلوا مع كادر غزة، مثلما تفعل السعودية مع الكادر الهندي أو الفيليبيني الذي يتقلد عملاً مهماً في الإدارة. بل إن عباس حتى وهو يتغني بالبيئة النظيفة في بلادنا ويزعم أنها الأنظف عالمياً، كان وعيه الباطني يفصل غزة ويجعلها دويلة أخرى، لا تؤثر بيئتها في بيئة دولته الناصعة. فغزة التي تغشاها وتتراكم فيها وفي مشافيها أكوام الزبالة، لعجزها عن تحمل أكلاف تنقية الصحة العامة، ليست منه ولا علاقة لبيئتها بسحنته!

لتكن التهدئة، وليكن الإنفراج في غزة، لكي يستريح الناس، وعندما يستريحون، سيكون مطلبهم الذي تنحني له كل الهامات، هو التمكين للإرادة الشعبية، والتشدد في الإمساك بناصية القضية، وإنقاذ الضفة قبل انقاذ غزة، من زبالة الحكم الفردي الضال، ورفع الغمة عن شعبنا في كل مكان!