فراغ في غزّة... والدور المصري

thumbgen (18).jpg
حجم الخط
 

ذروة منطق اللامنطق في غزّة احتمال التوصل الى اتفاق على هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل وحركة «حماس» بضمانات مصرية. كلّ هذه الحروب وكلّ هذا الدمار وكلّ هذا البؤس والفقر من اجل هدنة كان يمكن الوصول اليها في اليوم الذي انسحبت فيه إسرائيل من القطاع صيف العام 2005.
يبدو الجانب الوحيد الايجابي، في حال التوصّل الى اتفاق هدنة او تهدئة، اقتناع «حماس» بانّ عليها ان تكون على علاقة اكثر من جيّدة مع مصر بدل ان يتحوّل قطاع غزّة الى قاعدة يستخدمها الاخوان المسلمين ومن لفّ لفّهم في التآمر على القاهرة وارسال إرهابيين الى سيناء وغير سيناء. ولكن ما العمل مع الشبق الى السلطة الذي يتحكّم بالاخوان وكلّ تصرفاتهم والذي يجعل منهم أسوأ ما انتجته منطقة الشرق الاوسط في القرن العشرين؟
ليس مهمّا التوصل الى هدنة بمقدار ما ان المهمّ الاستفادة من تجارب الماضي القريب ومن انّ «حماس» لم تعمل منذ قيامها في العام 1987 سوى على تقويض المشروع الوطني الفلسطيني وصولا الى الهدنة الطويلة التي لا فائدة تذكر منها الّا خدمة الاحتلال الإسرائيلي. هذا لا يعني بأيّ شكل دعوة الى استئناف اطلاق الصواريخ المضحكة المبكية في اتجاه الداخل الإسرائيلي او إرسال شبان الى خط الحدود مع إسرائيل كي يموتوا من اجل لا شيء فيما العالم يتفرّج ويتفهّم للأسف الشديد قتل هؤلاء بدم بارد.
استطاعت «حماس» ان تكون منذ ولادتها مطيّة لكلّ من يريد تعطيل الحلّ السياسي في فلسطين. كانت مجرّد أداة لجأ اليها كلّ من كان يودّ الدخول في لعبة المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية والفلسطينيين، بمن في ذلك اسرائيل. حصل كلّ ذلك على حساب فلسطين والفلسطينيين. تكفي الإساءة الأكبر التي ارتكبتها «حماس» في حقّ الشعب الفلسطيني. تتمثل هذه الإساءة في تصويره بشكل مسلّح يضع قناعا يطلق شعارات من نوع «فلسطين وقف إسلامي». نجحت «حماس» الى حد كبير في تحويل الشعب من ضحيّة، يتعاطف معها من يمتلك حدّا ادنى من الشعور الإنساني في هذا العالم، الى جلّاد لا همّ له سوى ممارسة الإرهاب على الشعب الفلسطيني نفسه. الدليل على ذلك ان طموح كل شاب فلسطيني في غزّة هو الهجرة منها. استطاعت «حماس» تحويل الأرض الفلسطينية الى ارض طاردة لاهلها لا اكثر ولا اقلّ. هذا يتفق تماما مع ما تطمح اليه إسرائيل، ان لجهة تهجير الفلسطينيين من ارضهم او لجهة ترسيخ الهوّة وتوسيعها بين الضفّة الغربية وغزّة.
كان في الإمكان، خصوصا بعد صيف العام 2005، لدى اتخاذ ارييل شارون قرارا احاديّ الجانب يقضي بالانسحاب الكامل من قطاع غزّة وتفكيك المستوطنات فيه، تحويل غزّة الى نموذج لما يمكن ان تكون عليه دولة فلسطينية مستقلّة «قابلة للحياة».
كان في الإمكان استغلال فرصة الانسحاب والتعاطي مع الواقع بدل في فخّ لعبة الاوهام التي لم يجن منها الجانب الفلسطيني غير سلسلة من الكوارث التي لا يزال تأثيراتها يتفاعل الى اليوم. كان في الإمكان الانطلاق من الانسحاب الإسرائيلي للتفاوض في شأن إعادة تشغيل مطار غزّة الذي افتتحه ياسر عرفات في 1998 في اثناء وجود الرئيس بيل كلينتون في القطاع. ما لبثت إسرائيل ان أغلقت المطار العام 2001 في ظلّ قرار عسكرة الانتفاضة التي اندلعت بعد زيارة شارون للمسجد الأقصى أواخر 2000 ممهدا لوصوله الى موقع رئيس الوزراء خلفا لايهود باراك في فبراير 2001.
الآن، هناك تفاوض من اجل إعادة فتح المطار الذي ربط طوال ثلاث سنوات قطاع غزّة بالعالم الخارجي!
قبل التفاوض في شأن إعادة فتح المطار وتشغيل الميناء وفتح المعابر، من الضروري التساؤل ما الذي أوصل الوضع في غزّة الى ما وصل اليه. هذا هو التحدي الأكبر امام «حماس». تختزل هذا التحدي فكرة امتلاك شجاعة القيام بعملية نقد للذات. مثل هذه الشجاعة تعيد بعض الامل للشعب الفلسطيني الذي يجد الآن ان قضيتّه باتت قضية هامشية بعدما كانت تشغل العالم.
ماذا تعني عبارة امتلاك الشجاعة الكافية للقيام بعملية نقد للذات؟ تعني اوّل ما تعني التساؤل لماذا اغلق المطار بعد 2001؟ الجواب بكل بساطة ان الفلسطينيين لم يقدّروا النتائج المترتبة على قرار عسكرة الانتفاضة في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو وعودة ياسر عرفات الى رام الله بعد توقف في غزّة اثر مروره بمعبر رفح.
لعبت «حماس» كل الأدوار المطلوبة منها كي تكون هناك عسكرة للانتفاضة. لم يدرك عرفات في تلك المرحلة خطورة دخول مثل هذه اللعبة التي كان يشجّعها داعمو «حماس» في الخارج، على رأسهم ايران. هؤلاء تابعوا دعم «حماس» لاحقا في مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي وصولا الى تشجيعها على الانقلاب الذي نفّذته على السلطة الفلسطينية منتصف يونيو 2007.
لا حاجة الى استعادة مسلسل الاحداث من 2007 الى يومنا هذا. اذا كانت «حماس» التي اعتمدت على الدعم الايراني والتركي وصلت الى شيء، فهي وصلت الى طريق مسدود. واجهت في كلّ ما قامت به طريقا مسدودا ومأزقا، اكان ذلك عسكريا ام سياسيا. لم تشأ في أي وقت التراجع والاحتكام الى المنطق، حتّى عندما تصدت إسرائيل بالقوّة للسفينة التركية التي سعت الى فكّ الحصار عن القطاع. لم تكتف إسرائيل في مايو 2010 بالاعتداء على السفينة «مرمرة» التي كانت تنقل متطوعين من أصحاب النيات الطيبة أرادوا ايصال مساعدات الى اهل القطاع. كشفت ان تلك العملية التي تقف وراءها تركيا لم تكن اكثر من عملية دعائية وجزء من حملة علاقات عامة لتلميع صورة رجب طيّب اردوغان في العالم الإسلامي!
خاضت «حماس» حروبا عبثية عدّة مع إسرائيل. لا يزال هناك غزاويون ينامون في العراء الى الآن بسبب هذه الحروب التي دمرت منازلهم. المهمّ اليوم ما الذي سيحصل بعد الاتفاق مع إسرائيل. إلى اين ستأخذ «حماس» اهل غزّة في ظل غياب سلطة وطنية تعاني من الترهّل الشديد وحال ضياع حقيقية يعبر عنها العجز عن القيام بأي مبادرة في أيّ اتجاه كان، بما في ذلك حيال غزّة نفسها.
سيترتب على مصر أخذ المبادرة شاءت أم أبت. كان الاستخفاف بوضع غزّة وما يدور فيها في السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك من بين الأسباب التي جعلت من القطاع «ساحة» للآخرين، بما في ذلك للذين لا يريدون الخير لمصر من جهة والقضاء على أي دور إقليمي لها من جهة أخرى.
ليس اتفاق الهدنة المتوقع سوى دليل على افلاس «حماس». انّه افلاس على كلّ المستويات ناجم عن فراغ لا يستطيع أي طرف آخر ملؤه... باستثناء مصر. هذه فرصة كي تثبت مصر انّ المرحلة التي كان فيها لغزّة تأثير في القاهرة انتهت وان ما هو اكثر من طبيعي ان تكون اللعبة الدائرة في القطاع تدار من القاهرة وليس من ايّ مكان آخر.
عن الرأي الكويتية