الكاتب: تحسين يقين "نوستالجيا إيهاب بسيسو"

1.PNG
حجم الخط

حب شديد للماضي، أو هو حنين، لعله تفكير وشعور ونضال وطني وإنساني.

 

هل ترك اليونان مصطلحات لم ينحتوها؟

 

لقد عاشت طويلا، أكثر مما عاشوا؛ إنه الأدب الأكثر بقاء وخلودا.

 

نوستا-لوجي، عرفنا اللوجي فسألنا عن النوستا؛ قبل القصيدة وبعدها!

 

حنين في جوف حنين أكبر؛ به يستمر ويقوى؛ حنين للمكان في المكان، ولزمان فيه، لإنسان، ولنفسه!

 

وهو حنين فلسفي عميق زاد المسافر في هذه الحياة.

 

مدخل، فالحنين الأول لذلك اللقاء الإنساني، حيث أثر الحرب على المصير، وفي داخل هذا الحنين لذلك اللقاء يكمن الحنين الكبير للوطن. عندها يبرق الشاعر ثلاث تأملات شاعرية فلسفية، منتصرا بما يحرر هو من مساحات إنسانية، يحقق فيها ذاته حتى ولو على مستوى الحنين، فهو ضروري لاستمرار الحياة.

 

ترى ما الذي يمكن قراءته هنا في نوستالجيا للشاعر الشاب إيهاب بسيسو..؟

 

تلك النوستالجيا المرتبكة بين الذكريات

 

تطل في يوم غائم كسيدة تخرج من الفراغ الرمادي

 

بكامل ألوانها الصباحية ...

 

كأنها صورة منسية في جيب المدى

 

التقطها الريح لتقذفها أمامك

 

وأنت وحدك في الطريق المقفر ...

 

مدخل بلاغي يشبه به الحنين المخفي الذي يظهر بكامل طزاجته، بسيدة الألوان. فهو يشوقنا من البداية بهذا الوصف، الذي يصف فيه نفسه تجاه الذكريات التي تعود مرة أخرى بكامل بهائها.

 

وهنا نحن إزاء التذكارين، تذكار حادثة اللقاء، وتذكار الوطن:

 

ترافق السيدة الى طاولة منعزلة في مقهى ...

 

تجلسان كغريبين

 

تستحدثان لغة مشتركة

 

من ندبة جرح على ذراعها مشابهة لندبة جرح على ذراعك

 

الندبة تذكرك بمسار رصاصة لم توقظ موتا عجوزا في حرب سابقة ليركض خلفك في الأزقة

 

كنت الأسرع في الفرار من الموت

 

عندما سقطت في بئر العتمة وأغمي عليك ثم التقطك رعاة عابرون

 

نظفوا جرحك بالاعشاب

 

وأطلقوك كدوري في الفضاء ...

 

تخبرك السيدة عن ندبة ذراعها

 

كانت مثلك تركض مسرعة هربا من موت مروض

 

تطلقه الميليشيات المتقاتلة كلما أرادت إشعال حرائقها الموسمية ككلب صيد هرم يعرف الطريق جيدا الى الطرائد البريئة ...

 

نجت

 

كما نجوت

 

حين ألقت جرحها في البحر هربا من الميلشيات

 

وصارت سمكة التقطها قارب صياد كهل

 

نظف الجرح بالموسيقى وأغاني الصيادين ثم مسح وجهها فعادت مرة اخرى لتتشكل أنثى من فراغ ...

 

* * *

 

هكذا صار الحديث لغة مشتركة

 

وجوها في الهواء تسترد سيرة أب وأم وجيران في البعيد ...

 

وتسترد زمنا قبل الزمن الهارب من صخب قذيفة، صارت سجانا وحفار قبور وقبرا في جسد ...

 

* * *

 

وهنا، في الجزء الأكبر من القصيدة، يعرض الشاعر لهذا التلاقي المصيري، حيث يرمز بالندبتين على ذراعيهما لكل ما يترك أثر على حياة الإنسان. وهذا لا يمنع أن تكونا ندبتين حقيقيتين، بما يحتمله السياق، حيث تترك الحرب عادة بصماتها على الجسد والروح.

 

لقاء إنساني لرجل وامرأة عانيا من النزاع والحرب، ونجيا بصعوبة، كل وحربه، هو مع هذا الخارجي، وهي مع هذا الداخلي، ولعلك السياق يقودنا الى احتمال كونهما فلسطيني ولبنانية.

 

كلاهما نجيا من خلال الهرب من الحرب التي لم يختاراها، بل أجبرا عليها. وبعد النجاة، يجدان من يخفف عنهما التجربة، فيستعيدا العافية، ولكن دون التخلص تماما من أثر الحرب.

 

في الفقرة الأخيرة، يفسّر لنا سبب التضامن، وهو المعاناة المشتركة. وخلال ذلك نقرأ الحنين للحياة العادية المسالمة:

 

"وجوها في الهواء تسترد سيرة أب وأم وجيران في البعيد ...

 

وتسترد زمنا قبل الزمن الهارب"

 

وهنا بعد إذ يبوح بما يشعر من حنين لذلك اللقاء والوطن، تصبح الفرصة مهيأة للتأمل الفلسفي، تأمل الحنين الأول: حيوية البشر تحمي من الشيخوخة والترهل، حيث ينطلق الإنسان كفراشة:

 

نوستالجيا ...

 

أسميتها في الوقت الغامض حول فنجان قهوة علك تمنحها حياة إضافية فتستقر في النص ذاكرة مدينة تواصل الحياة بشغف فراشة في مقتبل العمر ...

 

التأمل الثاني: مأساة المصادفة حين تتحكم في مصيرهما معا، غير تاركة للإنسان القدرة على الاختيار.

 

نوستالجيا ...

 

اعتياد يومي على إصغاء حائر يحملك من صورة غريب نجا مصادفة من حرب التهمت شوراع عدة في الذاكرة الى صورة طفل يركض أمام بحر الصيف مفتونا باللون الأزرق ...

 

كأنك معلق بين صورتين، تواصل رتق أنفاسك المتعبة، فيما السيدة تواصل الحديث عن حروب وبرق ووجوه شهداء غابت في الضجيج ...

 

التأمل الثالث والأخير، تأكيد على انتصار الحنين الوفيّ، الذي يتحرر من القيود، حيث لا يخفف من الألم بقدر ما يصير ضروريا للحياة نفسها.

 

نوستالجيا ...

 

إدراك خفي لما تبقى منك فيك ...

 

ذلك البعيد الذي لم تهزمه الحروب والمسافة بل ظل وفيا لك ... يعود إليك بالوقت الذي تحرر من الزمن والصورة حين صار فضاء موازيا وحياة ترافقك بدفء خفي يخفف من وجع برد وأنت في الطريق إلى المقهىوحدك ...

 

والتأملات الثلاثة، مرتبطة ببعضها بعضا؛ حيث يضمن الحنين شبابا حيويين/ات قادرين على إدراك القيود باتجاه حلها؛ حيث يصبح الإنسان بشوقه وحنينه لبلاده أكثر قوة.

 

الشعرية في النص:

 

هي على مستويين، الكلية وقد أشرنا لها سابقا، وهي المتعلقة بكلية المضمون ورسالته، والجزئية، وهي ما يمكن الوقوف عنده داخل الجمل الشعرية.

 

منها، مدخل القصيدة:

 

"تلك النوستالجيا المرتبكة بين الذكريات

 

تطل في يوم غائم كسيدة تخرج من الفراغ الرمادي

 

بكامل ألوانها الصباحية ...

 

كأنها صورة منسية في جيب المدى

 

التقطها الريح لتقذفها أمامك

 

وأنت وحدك في الطريق المقفر"

 

طزاجة الحنين، أو لنقل طزاجة ما حن إليه الشاعر، إنه تضارب لوني؛ contrast بحيث يتمعق الخروج ويصبح أكثر لمعانا وحضورا كأنه الآن، وقد جاء بألوانها الصباحية كي يزيد هذه المفارقة اللونية-الشعورية، والزمنية أيضا، حيث الحاضر معتم.

 

أما التقاط الريح لها وقذفها، فلا يبعد عما ذهبنا إليه، غير أن الجملة هنا تعمق المعنى حركيا، وهذا منح القصيدة حياة أخرى.

 

ومنها: "تستحدثان لغة مشتركة

 

من ندبة جرح على ذراعها مشابهة لندبة جرح على ذراعك"

 

أشرنا إلى رمزية الندبة، لكننا هنا نربط الرمز بالبلاغة، فهذا التقاطع بين البيان والرمز يعمق الصورة الشعرية من جهة، والمعنى من جهة أخرى.

 

كذلك هنا "عندما سقطت في بئر العتمة وأغمي عليك ثم التقطك رعاة عابرون

 

نظفوا جرحك بالاعشاب

 

وأطلقوك كدوري في الفضاء ..."

 

وهنا بشكل خاص أزعم ان الشاعر قد وصل منتهى الإبداع، حين ركب الرمز والبيان على الميثولوجيا، القادمة من قصة النبي يوسف، مضيفا عليها جوا طقسيا آخر، من خلال الإشارة لطقوس التعامل مع الجروح عند القبائل المتنقلة، والتي توحي أيضا كما قصة يوسف بالجروح المعنوية.

 

وأخيرا، لعلي أقرأ في القصيدة تجريبا شعريا وشاعريا، لم يأت من فراغ من حيث الشكل، وقد زاد من مصداقيته وجماله وأهميته المضامين الرؤيوية الإنسانية والسياسية والوطنية.

 

ذلكم كان اجتهادي في قراءة في قصيدة فلسطينية، بعض الدلالات النقدية عن التجريب الشعري-الشاعري، الوطني الإنساني.

 

*الأبابة أو النوستالجيا (باليونانية القديمة νόστος الشوق y ἄλγος ألم )، معناها الحرفى : نص الكلمة "نوستـ" بمعني الرجوع للبيت و "الجيا" بمعنى ألم او وجع؛فمعناها هو الحنين للماضي هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلي الماضي، أصل الكلمة يرجع إلي اللغة اليونانية إذ تشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته، وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد. وتم وصفها علي انها حالة مرضية أو شكل من اشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا اهمية بالغة في فترة الرومانتيكيه. في الغالب النوستالجيا هي حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها واحداثها.

 

Ytahseen2001@yahoo.com