غزة على حد السكين

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

للأسبوع الثاني على التوالي يجتمع الكابينت الإسرائيلي، ليناقش الوضع الخاص بقطاع غزة، وإذا كان خلال الأسبوع الماضي استعرض مبادرة المبعوث الأممي نيكولاي ميلادينوف، بعد اجتماع المكتب السياسي لحماس، لمناقشة ما كان يمكن أن يكون اتفاقا أو صفقة أمنية / سياسية بين الجانبين، فإنه ناقش أول من أمس خيارات إسرائيل في مواجهة البالونات الحارقة، في الوقت الذي تظاهر فيه عشرات من مستوطني ما يسمى غلاف غزة، للتنديد بما وصفوه بتراخي الحكومة في مواجهة "الجنوب الذي يحترق" حسب تعبيرهم.
لم يتم الإفصاح بالطبع عن تفاصيل اجتماع الكابينت الذي جرى في مركز إدارة الأزمات الوطنية داخل المأوى المحصن في باطن الأرض، لكن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قال إن هناك تبادل لكمات، متابعا القول إن مطلبه هو الوقف الكامل لإطلاق النار!
رئيس الحكومة الإسرائيلية اعترف متبجحا بأنه قد قام بتدمير مئات من الأهداف الخاصة بحماس، لكنه بالطبع ومع ملاحظة التصعيد الذي جرى خلال الأسبوع الماضي، خاصة بعد يوم الجمعة حيث واصلت مسيرة العودة فعالياتها، بما يعني أن "مطلب إسرائيل" بقبول مليوني مواطن "حياة السجن الجماعي" ليس مقبولا، كان يدرك في أعماقه ما استجد من تصعيد عسكري إسرائيلي، تمثل في استخدام الطائرات الحربية في تدمير الأهداف المدنية كما حدث مع مركز المسحال الثقافي.
ومن الواضح أنه تم شد الحبل من الطرف الإسرائيلي حتى آخره، وتقوم إسرائيل بعملية جس نبض من خلال محاولة إدراك حجم رد فعل حماس على تصعيد إضافي، حيث من الواضح أنه رغم أن الكابينت في اجتماعه الأسبوع الماضي قال إنه قد أسقط مطلب وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، بشن حرب واسعة ضد قطاع غزة، إلا أنه يوافق في حقيقة الأمر، على مطلبه بضرورة وقف إطلاق البالونات الحارقة، بل ربما وقف كل فعاليات مسيرة العودة، فقط مقابل وقف التصعيد العسكري الإسرائيلي.
لم يبق أمام إسرائيل إلا أن تستهدف بعض القادة العسكريين أو حتى السياسيين من حماس، ليبدأ الحريق، أو ما يمكن وصفه بالحرب الأخيرة على قطاع غزة، التي يبدو أن إسرائيل تفكر بها جيدا، لتجاوز حالة المراوحة في المكان نفسه، أو لتجاوز حالة الاستعصاء التي قوبلت بها صفقة القرن حتى على الصعيد العربي، لكن إسرائيل ما زالت تقول إنه ليس هناك بديل آخر مفضل لديها أكثر من حماس في قطاع غزة، وهي تريد أن تمنع إنهاء الانقسام، وفي الوقت ذاته، تريد من غزة أن تغدو طيّعة تماما، ولا شك بأنها تحاول أن تقف الآن عند حدود التغير الذي أحاط بحركة حماس كلها، وخاصة جناحها العسكري بعد أحد عشر عاما من الجلوس على مقاعد الحكم والسلطة.
ولا شك بأن إسرائيل ترى أن حماس الآن إنما هي نسخة أخرى، خاصة بعد أن تبوأ موقعها القيادي العام إسماعيل هنية ورئاستها في غزة يحيى السنوار، وبعد أن خرجت من دائرة الممانعة أو التحالف الإقليمي المناهض للولايات المتحدة وإسرائيل، أي سورية وإيران، ولم يعد لها من حلفاء سوى قطر صديقة إسرائيل وتركيا، أي أن حماس بالنظر إلى حلفائها والتطور السياسي الداخلي البرنامجي والتنظيمي، تحولت من دائرة المواجهة إلى مربع المعارضة، أو ما وصفه هنيه نفسه بالمقاومة الشعبية السلمية.
هذه النسخة المعدلة، عن حماس قبل عقدين من الزمان، لا تعتبر مطمئنة تماما لإسرائيل طالما هناك قوة عسكرية ومعدات، وطالما أن عسكر حماس خارج مربع العلاقات السياسية الإقليمية، المباشر على الأقل، لذا تريد ضمانة تامة لأن تكون غزة مؤهلة لأن تكون دولة مستقلة ولكن منزوعة السلاح تماما، وهي لا تراهن على بقاء حماس في موقع السيطرة على غزة إلى الأبد.
كذلك ما زالت إسرائيل تواجه مشكلة أن السلطة الشرعية التي يعترف بها العالم كله إنما هي تلك في الضفة الغربية، إضافة لذلك فإن حماس لا تجرؤ حتى اللحظة على التقدم لتفاوض إسرائيل سياسيا وبشكل مباشر، لأنها تفتقد إلى صفة التمثيل الفلسطيني، وبالتالي فإن اتفاقا مع حماس سيظل غير كافٍ ولا يستحق "التضحية" من قبل إسرائيل بتحرير قطاع غزة من قبضتها بالكامل، لأن من شأن قبولها لاستقلال قطاع غزة عنها، وبشكل تام، أن يشجع العالم على أن يطالبها بفعل الشيء ذاته في الضفة الغربية.
المشكلة تكمن في أن إجراءات السلطة المركزية دفعت حركة حماس للتقدم باتجاه اتخاذ القرار الحاسم، حيث صارت الحياة في غزة لا تطاق، وحماس التي تتقن القيام بدور المعارضة فشلت تماما في القيام بدور السلطة المسؤولة، ولولا أن السلطة في رام الله كانت تقدم الخدمات لغزة طوال الأعوام الماضية، لانهارت تماما منذ زمن، كذلك فإنه يستحيل على إسرائيل أن تحمل حماس علنا على كتفيها، وأن تصل معها إلى اتفاق نهائي، يجعل من غزة بالنسبة لإسرائيل كيانا مشابها لكيان قبرص التركية بالنسبة لتركيا!
أسوأ ما في هذا التقدير للموقف هو أن نخرج باستنتاج بأنه لا مفر لكل من إسرائيل وحماس إلا في حدوث مواجهة دامية، تشبه الحروب الثلاث السابقة، ولكن حتى تكون هذه الأخيرة، لا بد لإسرائيل من دخول قطاع غزة، من أجل تنصيب حكم أو مفاوض لها كما حدث حين احتلت جنوب لبنان، ومن ثم شجعت سعد حداد على "الانشقاق" عن الجيش اللبناني، ومن يدري ربما يكون هدف إسرائيل هو تصفية بعض القادة العسكريين وربما السياسيين لحماس الذين يقفون كحجر عثرة في طريق الاستعداد للاتفاق السياسي مع إسرائيل على قاعدة الاستقلال بغزة، من خلال توقيع وثيقة استسلام، كما حدث مع كثير من الدول في مناسبات عديدة، وهكذا فإن قطاع غزة يقف اليوم على حد السكين، التي يمكن أن تنزلق في أية لحظة لتقطع رقاب الآلاف من البشر الأبرياء.