عن الشرف العربي (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

للدلالة على التأثير السلبي الذي خلّفه بعض الفقهاء على نظرة المجتمع للمرأة، وتكريس «ثقافة الحريم»، وربط سلوك المرأة بالشرف، تورد فاطمة المرنيسي في كتابها «ما وراء الحجاب» نصوصاً من الجامع الصحيح للبخاري حول عادات العرب في الزواج قبل الإسلام، وتوضح أنه كان هنالك أربعة أنماط من الزيجات منتشرة بين العرب، ثلاثة منها تكاد تكون شكلا من الزنا حسب مفهومنا الحالي، وبالرغم من ذلك كانت تلك النسوة ممن يأتين هذا الفعل لا يتعرضن لأي تهم أو مضايقات، ولم يكن يُنظر إليهن كعاهرات منبوذات، ما يدل على ثقافة جنسية كانت سائدة آنذاك، وكانت تتسم بشيء من المرونة والانفتاح، مع أن الإسلام نظم هذه المسألة فيما بعد؛ إلا أن ربط هذا السلوك بالشرف وعلى النحو الذي نراه الآن قد تم على يد بعض الفقهاء، وبالذات في عصور التراجع والانحطاط، والزخم الإضافي الذي أضيف إلى هذه المسألة تم على يد المتشددين من أحزاب الإسلام السياسي في القرن العشرين.
ومثال آخر يتجلى بتلك الصورة المشرقة للجمال والحب والمرأة عند العرب، والتي كانت واضحة في الشعر العربي القديم وفي قصص الحب الشهيرة، فقد ارتبط الحب العذري بقبيلة «عذرة»، وكان موضع تفاخر لا يخجل منه الطرفان، والجمال يُعبر عنه بأعذب أبيات الغزل، أما الثقافة السائدة حاليا لدى البعض فتمتهن المرأة وتحتقر الجمال، وتقرن الحب بالإثم والعار وتعده أكبر الكبائر. 
إذاً، فالمسألة لم تكن محصورة في القالب الفقهي وحسب، بل كانت تأسيساً لثقافة مجتمعية جديدة قوامها النظرة السلبية تجاه المرأة، فقد كان اضطهاد المرأة مقدمة تمهد لاضطهاد العبيد واضطهاد المجتمع بأسره، ومن ثم قمع المجتمع وإخضاعه للسلطة، وقد احتاجت السلطة «الذكورية» إلى إطار أيديولوجي وقيمي تستند إليه، ويمكّنها من المضي قدماً في مظالمها واستغلالها وتوظفه لخدمة سياساتها، ويجعل من سلوكها أمراً عادياً ومقبولاً من قبل المجتمع، أي بالاتكاء على الطرف الأضعف، وهي المرأة، وجعلها شماعة لأخطائهم وسبباً لسلوكهم القائم على التعسف والقهر، أي بعبارة أخرى من خلال ربط الشرف والأخلاق بجسد المرأة، لتُبرأ بعدها ساحة الرجال.
وتؤكد نوال السعداوي أن هذا الربط قد فرغ الشرف من محتواه ومضامينه الإنسانية، وهكذا تمكن الرجل من تأسيس نظامه الاجتماعي المخصص لخدمته، ولم يعد الشرف يعني العمل الخلاق والانتماء والنـزاهة والدفاع عن الأوطان، بل أصبح شيئاً مرتبطاً بالمرأة فقط، ولا علاقة له بالرجل وسلوكه إلا بقدر سلوك زوجته وأمه وابنته، وبذلك أصبح معيار الشرف هو التملك، وبما أن الزوجة والابنة والأم وبقية أفراد الأسرة هي من ممتلكات الرجل في الأسرة البطريركية، فإن هذه الملكية والاحتكار قد منحتاه مشروعية تملّك غيرها من الأشياء في المجتمع، وأصبحت الصورة على النحو الآتي:
- الرجل يمتلك الأسرة (الإناث بشكل خاص) ويخضعها لسيطرته، وبالتالي فإن سلوك الأسرة هو الذي يحدد نوعية شرف الرجل بصرف النظر عن مسلك الرجل نفسه.
- الرجل يمتلك المال والجاه والعقار والسلطة، وبالتالي فإن حجم ممتلكاته لهذه الأشياء هو الذي يحدد مستوى شرفه ومكانته الاجتماعية، بصرف النظر أيضاً عن مسلك الرجل وطريقة امتلاكه لهذه الأشياء.
- السلطة تقمع الأسرة والمجتمع بكافة طبقاته، وأيضاً دون مقاومة، إذ إن الأمور قد سارت على نحو يسهل مهمتها، ويطبّع عقول المجتمع لتتقبل الأمر، وفي النهاية سينتظم المجتمع على النحو الذي يخدم السلطة والطبقات المسيطرة والرجل، بحيث يأخذ كل منهم نصيبه من الغنائم، وأولها المرأة، وهكذا سيؤسس المجتمع نظامه القيمي والأخلاقي، ويعيد تعريف معنى الشرف بما يتماشى مع طبيعة المجتمع ونظرته الطبقية تجاه بعضه البعض.
فالرجل «شريف»، طالما أن زوجته لا تخونه، وطالما أن بناته يحافظن على عذريتهن، حتى لو كان هذا الرجل ظالماً ومستبداً وفاسداً.. وانتقل هذا التشويه إلى المرأة نفسها، لتصبح المرأة «شريفة»، طالما أنها تحافظ على نفسها، وتراعي بعض التقاليد الشكلية، ومسخرة للمطبخ، حتى لو كانت هذه المرأة شريرة وماكرة وخانعة.
وهذا التشويه لمفهوم الشرف شمل بقية قيم المجتمع، فأصبح الغني صاحب الجاه والنفوذ إنساناً شريفاً، حتى لو حصل على ثروته بالنصب والاحتيال، والتاجر الكبير شريفاً، حتى لو اعتمد الغش في معاملاته.
أما التساقط السياسي والانحطاط القيمي والنفاق والاستغلال واحتلال الأوطان وتدنيس المقدسات وانتهاك الحرمات وسحق حقوق الإنسان والسجون والبطالة والمعاهدات المذلة وغيرها، كل هذه الأشياء في نظر المجتمع لا علاقة لها بالشرف، طالما أن المتسببين لها لم يتجاوزوا بعض الشكليات، وما داموا أغنياء وأقوياء، وسيبقى المجتمع يتقرب إليهم ويتملق لهم، وسيبقى متسلطاً على الفقير والضعيف، ويرجمه إذا ما أقدم على أي انحراف.
من أجل إعادة الاعتبار لمفهوم الشرف، ليصبح أخلاقيا، لا بد أن يتعلق برأس الإنسان وبمسلكه وأخلاقه، ولا بد أن تسود القيم الإنسانية على قيم التملك والملكية الخاصة، وألا نجعل من الأطفال والنساء كبوش فداء لأخطاء الرجال وشماعة لفجورهم، ويجب أن يتمسك الناس بجوهر الشرف من حيث الصدق والعدالة والمساواة والحرية، وأن يكون للإنسان حياة واحدة وشخصية واحدة، هي حياته العلنية وشخصيته العلنية، وهذا هو معيار الشرف، أما أن يكون للإنسان حياتان وشخصيتان، واحدة يدّعي فيها الشرف وأخرى سرية يمارس فيها كل الرذائل، فهذا هو العهر بعينه، ويجب أن يكون العلم والأخلاق والعمل هو معيار الشرف ومقياسه، لا الشكليات والمظاهر البراقة. (نوال السعداوي).
ومفتاح التغيير الجذري في مجتمعنا هو بترسيخ النظرة الإيجابية للمرأة ومساواتها بالرجل، وتحرير عقلها من الخرافة والتقليد، وتحرير المجتمع من المفاهيم المتخلفة للشرف، ومستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن، كما يرى هشام شرابي: ما دامت نظرتنا للمرأة وللشرف على هذا المستوى من الجهل والضحالة، وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد، فالإنسان العربي غير قابل للتغيير، وسنبقى قبائل وعشائر تغير على بعضها، مع فارق شكلي بسيط هو أننا صرنا نستخدم الفيسبوك لإذاعة انتصاراتنا الوهمية.