يتساءل المرء عن حال واقعنا العربي المهزوم والمأزوم الذي يتفاقم من سيئ إلى أسوأ، في ظل بيئة طاردة ومليئة بالحروب والصراعات الداخلية والبينية وغياب لأي أمل باستنهاض قدرات وظفت في طريق غير طريقها وفي مسيرة الركود والتراجع.
في هذه الأيام نعيش أتعس حالاتنا، ليس انحسارا عربيا فقط، بل نعيش هبوطا إلى القاع والهاوية، وتشرذما ما بعده تشرذم، لا مرجعية عربية قادرة على صد الأخطار الخارجية، مع عدم وجود رؤية وبوصلة تحرك هذا الوضع المشؤوم، ولا حتى مشروع عربي يحقق نهضة ثقافية أو حضارية... إلخ.
إنها مرحلة النكسة والضياع، تجلت مفارقتها في أكثر من مشهد، ليس أولها بطبيعة الحال حرب العام 1948 التي أدت إلى هزيمة الجيوش العربية، مروراً بنكسة العام 1967 وما تبعها من اتفاقيات سلام شرّعت الاحتلال الإسرائيلي وكرسته على أرض الواقع.
من التعامل مع الملف الفلسطيني كان واضحاً حجم الإفلاس العربي، واتضح أكثر مع الغزو العراقي للكويت، وتداعيات ذلك على الخريطة العربية عموماً، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي لبغداد وعودة هذا البلد إلى عصور الظلام والجاهلية.
لم نلمس مما حدث في العراق أي تضامن عربي، واستتبع هذا الضعف والوهن بتدخل الولايات المتحدة أكثر وأكثر في الشؤون العربية، إلى أن وصلنا إلى هذه الأوضاع الحالية التي عجلت في السقوط العربي في براثن التخلف والأمية والطائفية.
يحدث ذلك لأن العرب لم يمتلكوا المعرفة ولا أي مشروع عربي يوحد صفوفهم، وكان العالم شاهداً في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على صراع بين قوى محافظة وأخرى عربية تحمل توجهات يسارية تقدمية، وبين هذين المشروعين ضاعت الطاسة العربية.
من هذا الاقتتال والاختلاف العربي، لم نتمكن من بناء اقتصاد حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولم نتمكن من بناء المعرفة والاستثمار في الإنسان الذي يعتبر بحق أساس التنمية، وأكثر ما أبدعنا فيه هو إنفاق الأموال على التسلح وشراء المعدات العسكرية من الغرب.
نتيجة لضعف الرؤية السياسية وغياب الديمقراطية ومفهوم الانتقال السلمي وتداول السلطة، يجري ما يجري الآن في الوطن العربي، حيث الكثير من دوله مصابة في أنظمتها السياسية التي لم تحسن إدارة البلاد والعباد، أما الثمن فدائماً ما يتحمله ويدفعه المواطن العربي.
العراق اليوم لم يعد ذلك العراق الذي كان يمتلك القوة التي تؤهله أن يكون دولة إقليمية مؤثرة في المنطقة، والأمر كذلك ينطبق على الحالة السورية، ذلك أن هذا النزاع الذي تشهده دمشق طيلة أكثر من أربعة أعوام، استنزف من قدراتها وأخرجها من حسبة الدول المؤثرة في الشرق الأوسط.
ومصر الناصرية التي قدمت نموذجاً مشرفاً لمشروع قومي عربي في خمسينيات القرن الماضي، لم تعد تلك المصر اليوم، بعد محاولات غربية دؤوبة لإضعافها وإسكات صوتها، بينما تجتهد الآن في بناء قوتها بالرغم من عوامل التهديد الداخلي التي تربك حساباتها وحضورها على المشهد العربي العام.
وقس على ذلك دولا عربية كثيرة تحولت إلى فاشلة بفعل التدخلات الخارجية وبفعل العامل الداخلي الذي يضعف من مناعتها ويجعلها غير قادرة على النهوض في مواجهة كافة التحديات التي تحيط بها، ومع الأسف تجدها تواصل تبديد قوتها ورأسمالها في نزاعات داخلية تقلق أمنها وتهدد مصيرها.
سبب وصول العراق إلى ما هو عليه بفعل العرب، وعدم حل القضية الفلسطينية أيضاً بسبب العرب، وما يحصل في سورية نتيجته الضعف العربي، وليبيا وتونس ولبنان واليمن والسودان والحبل على الجرار، والطامة أن لا أحد يقف ويقول مهلاً أين نسير، دعونا نتصالح مع أنفسنا.
مشكلة العالم العربي أنه خرج من الاستعمار الغربي ولم يحقق التنمية التي تحلم بها الشعوب العربية، وعاد مرةً أخرى إلى الاستنجاد بذلك الغرب الذي أقلق مصيره، ولم يستنجد بنفسه حتى يصنع منها مشروعاً يحميه من الأخطار الخارجية.
لذلك نلاحظ حجم الدول التي تؤثر في المشهد العربي، بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بروسيا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل وتركيا وإيران وغيرها من الدول الأخرى، في الوقت الذي تستفيد فيه هذه الدول من هزائمنا واقتتالنا الداخلي.
نعم تلك الدول صنعت عداوة بين العرب، وهؤلاء الأخيرون صدقوا أنهم أعداء، وتفشت الطائفية والطبقية في ظل بيئة حاضنة لها مشحونة بالتوتر والفساد والفقر، في ظل غياب الأفق السياسي وانعدام كامل في الأمن وخروجاً عن التقاليد الإسلامية التي ترحب بالجار وتعزز القيم المشتركة على مبدأ التاريخ والدين الإسلامي.
تجاهل العرب أنهم من نفس الطينة التي خلق بها الله آدم، نفس اللغة والتاريخ المشترك، وفضلوا مواجهة بعضهم البعض، مبتعدين عن فكرة صناعة مشروع يخدمهم ويضعهم في سكة الدول المتنورة والنامية التي يمكن أن تضمن لشعبها حياة كريمة.
بسبب عدم وجود أي مشروع عربي حقيقي، تتدخل إسرائيل وتركيا وإيران في منطقتنا وتراهن على خلافاتنا الداخلية لتمكين مشروعاتها الإقليمية الخاصة، ونتيجةً لغياب ذلك المشروع فإن محصلة المعرفة غائبة أيضاً، والدليل أنه لو وجد مشروع ثقافي عربي لما كنا وصلنا إلى ما وصلناه اليوم من جهل وتخلف في معرفة قيمنا ومعتقداتنا.
لنا أن نتخيل أن العرب الذين لم يمتلكوا المعرفة، غير قادرين على بناء سيارة أو حتى هاتف متحرك من ألفه إلى يائه، ويعتبرون من أكثر دول العالم استيراداً للأسلحة من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا تحديداً، بل ينفقون مليارات الدولارات من أجل التسلح، على حساب محفظتي التعليم والصحة على سبيل المثال والقضايا التنموية التي تمكن من امتلاك المعرفة.
أضف إلى ذلك وبسبب تعدد بؤر النزاع الداخلي، فإن أعداد المهاجرين العرب في اطراد، وتعتبر سورية أكثر دولة في العالم طاردة للسكان بسبب ما تعيشه من نزاع دموي، والعراق وليبيا ودول أخرى تعاني من الأمر نفسه، وفلسطين تواجه طرداً إسرائيلياً قسرياً في حضرة الشلل العربي.
الأنظمة العربية وحدها من أصاب نفسها بهذا البلاء، فهي التي اشترت كباراً صادروا قراراتها، وهي التي تمسكت بمشروعات غربية لم تخدمها يوماً من الأيام، وكان الأولى بها أن تواجه المؤامرات الخارجية ببناء مشروع عربي ليس بالضرورة هدفه مواجهة الغرب، بقدر ما يهمنا أن يحفظ ماء وجه العرب.
إن التصدي للقوى الظلامية والتكفيرية يأتي باقتناع العرب أن الدول الكبرى لا تحقق إلا مصالحها، وأنها تغذي في النزاعات العربية من أجل تحقيق أطماع استعمارية بمفهوم جديد، هدفه إبقاء التبعية للخارج الذي يدعي توفير الأمان والحماية مقابل جبايتها من المال العربي.
إذا لم يمتلك العرب مشروعاً يردع الأطماع الدولية والإقليمية، ويشكل حائط صد لكافة الأفكار المشمئزة والمشوهة، فقد نبقى نجتر هزائمنا ونثبت يوماً بعد يوم أننا لا ننفع في شيء، إلا في الخطابات البليغة وبيانات الرأي المنددة والشاجبة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
المشروع الصهيوني: قادرٌ على التدمير، عاجزٌ عن الانتصار
07 أكتوبر 2024